لعل أعظم مهمة تؤديها ورش العمل السنوية لمجلس العلاقات الأميركية- الإيطالية, هي إعطاء القادمين من الساحل الآخر من المحيط الأطلسي, فكرة عن رؤية واشنطن لمجريات الأحداث العالمية وموقفها منها. ويضطلع بهذه المهمة عدد من المسؤولين الحاليين والسابقين, ومجموعة من الصحفيين والباحثين بمختلف مراكز ومؤسسات البحث العلمي, فضلاً عن رجال الأعمال الأميركيين. وتكتسب ورش العمل هذه أهميتها بسبب الخلط وسوء الفهم واسع النطاق, الذي يشوب رؤية واضعي السياسات وصناع الرأي العام في كلا الجانبين, للمجريات والأحداث ذاتها. وفي ورش العمل إياها, يتوفر مناخ فكري ملائم لتبادل الفهم بين المسؤولين والمعلقين والمحللين في كلا الجانبين. وفيما يتصل بما يبدو في نظر أوروبا حزمة من قضايا السياسات التي تواجه واشنطن في منطقة الشرق الأوسط, فقد تركت المناقشات العامة والخاصة التي جرت في مدينة البندقية الإيطالية الأسبوع الماضي, انطباعاً غير متوقع عن مدى مرونة وإلمام المشاركين الأميركيين في تلك المناقشات, بمجريات الأحداث وموقفهم المفترض حيالها. فقد خرجت بانطباع من كافة الأميركيين الذين تحدثت معهم, مفاده أن مسألة العراق قد آلت إلى نهايتها المحتومة. فعلى "المحافظين الجدد" دارت الدائرة وارتدَّت عليهم سهام غزوهم للعراق, بينما بهتت رومانسيتهم الآيديولوجية القائلة بإشاعة الحرية والديمقراطية على نطاق العالم كله, وفي مقدمته منطقة الشرق الأوسط, وتخليص تلك الشعوب من نير الاستبداد على صهوة التدخل الأميركي. فمن رأي المشاركين في ورش العمل هذه من الأميركيين, أنه ما من أحد اليوم يأخذ مأخذ الجد هذه الدعاوى الرومانسية الحالمة. وفي معرض النقاش ذكرت محدثيّ الأميركيين بأن الرئيس بوش لا زال يزعم أن تحرير العالم مهمة لا تنفصم عراها عن جوهر السياسات الأميركية, وأن ذلك الزعم كان جزءاً من أفكار مقدمته للنسخة السنوية الصادرة هذا العام من بيان "الاستراتيجية القومية". غير أنهم ردوا عليَّ بالقول إن على الإدارة أن تقول ما قالته على أي حال. واليوم فإن غالبية الديمقراطيين والجمهوريين يعتقدون أن المعضلة الرئيسية المتبقية من كل تلك الآيديولوجيا المحافظة, هي كيفية التوصل إلى مخرج ما من مأزقها. من ذلك مثلاً أن خطأ غزو العراق, أصبح أمراً مسلماً به من قبل كل من يتسم بالجدية في أوساط ودوائر صنع السياسات الخارجية الأميركية. ومن بين هؤلاء قال أحد المتحدثين الأميركيين إنه ربما كان غزو العراق, الخطأ الأكبر على الإطلاق في تاريخ السياسات الخارجية الأميركية, إلا أن من الواجب الآن تركه وراء ظهورنا. وأوضح المتحدث نفسه أن التيار السياسي الرئيسي في الحزبين الديمقراطي والجمهوري اتفق على غزو العراق. وليس أدل على ذلك من تذكير المرشح الرئاسي الديمقراطي جون كيري لناخبيه في عام 2004, بأنه كان سيتخذ القرار نفسه الذي اتخذه الرئيس بوش. وبذلك استنتج المتحدث أن الخطأ كان مشتركاً, وأنه لزم الأمر الاعتراف المشترك بعواقبه ونتائجه الآن, سواء ما تمثل منها في ذلك العدد المهول من القتلى والمعاقين من الجنود الأميركيين, أم في ضحاياه الكثر من القتلى والمصابين العراقيين, مدنيين وعسكريين على حد سواء. وبالفعل تتوحد جهود النخب الديمقراطية والجمهورية معاً, في سبيل إيجاد أفضل المخارج وأقلها إيلاماً من المأزق العراقي. وليس من تصور جمهوري أو ديمقراطي للخروج من هذا المأزق, أفضل من تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار السياسي في العراق, كي يتمكن الجنود الأميركيون من الانسحاب من وحل العنف الذي زجوا فيه, بحيث يكون ذلك الانسحاب شبيهاً بما حدث في فيتنام عام 1973. وهناك من الأميركيين من بدأ يعتقد جاداً إمكانية تحقيق تصور كهذا. ويعلق هؤلاء آمالاً كبيرة على انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية خلال عامين من الآن, كي تزول كافة المصائب التي حلت بأميركا منذ عام 2001, لتتحول إلى مجرد ذكرى وماضٍ بعيد في أذهان الأميركيين. وتذهب الاعتقادات ذاتها إلى أن من الأرجح أن يترك الحبل على الغارب للأزمتين النوويتين في كل من كوريا الشمالية وإيران, طالما أنه ليس في وسع إدارة بوش خوض حرب جديدة, سواء لعدم مقدرتها السياسية أو المالية. أما فيما يتصل بالنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي, فلم يعد في وسع واشنطن فعل أي شيء إزاءه بغية حله أو التخفيف من وطأته, طالما بقيت السياسات الخارجية الأميركية على مراوحتها مكانها وانحيازها الثابت لصالح إسرائيل. وبسبب هذا التآزر بين جماعات الضغط اليهودي من جانب, والبروتستانت الإنجيليين من جانب آخر -في دعمهما المشترك لإسرائيل- فإن المرجح أن تترك واشنطن لإسرائيل أن تفعل ما تشاء بحق الفلسطينيين. وفيما يخص الرئيس الجديد المتوقع في عام 2008, فقد أجمع رأي المشاركين على أنه سيكون جمهورياً آخر, بالنظر إلى أنه لم يعد للديمقراطيين ما يؤهلهم للوصول إلى المنصب الرئاسي. وكان من رأي المشاركين أن "هوارد دين" موغل في تطرفه ويساريته, في حين اقتصر حكمهم على "آل جور" على أنه ناشط بيئي لا أكثر. وحين جاء دور الحكم على "هيلاري كلينتون", كانت نصيحة خيرة المنظرين الديمقراطيين لها أنه ليس لها ما يميزها عن الجمهوريين! ولما كنت كاتباً مقيماً في أوروبا, فقد كثر اتهامي ببعدي الموغل عن واشنطن. على أنه يجوز أن أكون في غاية القرب منها في ذات الوقت. ومهما يكن, فقد وجدت في حوارات البندقية هذه, ما أثار فضولي ودهشتي واهتمامي معاً. ويليام فاف ـــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"