دور الأدباء وأصحاب القلم في "بناء صورة متخيلة أو حقيقية" عن أمة معينة يشتغل في قلب عملية تكوين الهوية القومية, التي تمثل البنية التحتية لقيام الأمة, أية أمة. لكنه يظل دوراً يعتمد في الأساس على الظرف السياسي والمرحلة التاريخية التي تمر بها تلك الأمة, ولهذا فهو يتسنم وظائف متعددة ومتغيرة وليس بالضرورة أن تنحو تلك الوظائف بالكلية في اتجاه دعم التوحد والوحدة. ففي حين كان الأدباء العرب دعاة وحدة ومن حملة راية القومية العربية, سياسياً أو ثقافياً, فإن الأدباء الألمان في حقبة الحرب الباردة وقبل توحد ألمانيا عام 1990 رسموا صوراً متنافرة لدولتين, واحدة غربية والأخرى شرقية, لا يمكن لهما أن تتحدا ثقافياً. ولذا كان "غونتر غراس" قد قال ذات مرة إن الأدب هو الشيء الوحيد المشترك بين الألمان, وهي مقولة قد تنطبق في أوجه كثيرة منها على العرب أيضاً. ففي السياق العربي كان للأدباء العرب دور في خلق هويات وطنية متنافرة مع الهوية القومية التي دعا لها فريق آخر, إذ تطورت الدعوة إلى الهوية والقومية المصرية, واللبنانية, والسودانية, وهكذا. هذا كله رغم أن العلاقة بين الأدب والقومية احتلت أهمية خاصة في الإطار العربي بسبب الحرب بين الدولة الوطنية (أو القطرية بحسب وصف آخر) والقومية العربية بشكل عام. ولأن القومية العربية لم تمتلك دولة تجسد فكرتها فإنها ركزت على الأدب لنقل المشاعر القومية. هذه الأطروحة وما يتفرع عنها هي ما يحمله كتاب ياسر سليمان "الأدب والأمة في الشرق الأوسط" الصادر حديثاً بالإنجليزية في بريطانيا. ويقتبس سليمان عن "ألدوس هكسلي" مقولة يؤكد فيها "إن الأمم هي، وإلى حد كبير، تم اختراعها من قبل شعرائها وروائييها". ومعنى ذلك أن دور الأدب والمخيلة الكتابية الإبداعية في تصوير الأمة وما يرتبط بها من نشوء, ورومانس, وهوية, وسوى ذلك، هو دور مركزي في خلق "الأمة وصورتها" في وجدان وعقل جماعتها. يتحفظ سليمان على ما قد يبدو من مبالغة في إحالة فكرة "اختراع الأمة" إلى الأدب وحده, لكنه يقر بالمغزى العام لمقولة "هكسلي" المؤشرة على الدور المهم والكبير للأدب في صيرورة الاختراع تلك. بيد أن ما يراه في السياق العربي هو أن الشعر هو الذي كان حامل المعنى القومي وليس الرواية كما في حالات قومية أخرى كثيرة كان قد ذكرها "بندكت أندرسون" في أطروحته الشهيرة حول "المجتمعات المتخيلة", وأعلى من مركزية الرواية في صيرورة تكونها. كما يرفض سليمان فكرة أن الأدب يعكس الواقع, ويرى أن هذا المنظور محدد وأحياناً مغلق. ويعتمد عوضاً عن ذلك منهج البنائية الذي ينظر إلى العلاقة بين الأدب والأمة نظرة حديثة تنطوي على علاقة بنائية حيث يساهم طرفا العلاقة في خلق وتعزيز بعضهما بعضاً. فالأدب, وكما تبدى في القرون الثامن والتاسع عشر والعشرين, لعب في أوروبا دوراً بارزاً في قيام الأمم, كما كان المثال الأبرز في الحالة الألمانية, وإن أخذ شكلاً جوهرانياً صارماً بعض الأحيان. لكن في كل الحالات كانت الوظيفة متماثلة وهي التأكيد على خصوصية الأمة المعنية وتفوقها وجوانب إبداعها وسباقها للأمم الأخرى. وهكذا فإن أدباً مثل الأيرلندي أو الأسكتلندي أو الأميركي أو الكندي أو الإنجليزي قد عكس شخصية قومية مختلفة رغم أنه كتب باللغة نفسها. لكن ما لا يجب تجاهله هو أن الجرعات الطافحة بالرومانس القومي في الآداب المختلفة لا تني تعزز الشعور بالفخر القومي والاستثنائية الحضارية, بما يضاعف من مخاطر تطرف القومية. ورغم أن سليمان يشير إلى آراء "إيلي خدوري" في سياق تحليل القومية واعتبارها منتجاً شريراً للشعراء والأدباء الذين لم يمارسوا السلطة ولم يدركوا بالضبط مخاطر ما يقومون بتصنيعه, فإنه يعتبر تلك الآراء ذات جانب واحد. ويستدل بمقولات "أبرباش" في المقابل التي تقول "إن القومية ورغم ما تحمله من مخاطر تدميرية تظل قوة سياسية حضارية. والشعر القومي ليس هامشياً بل يعبر عن معظم ما يشعر به الناس. ويتعزز هذا الشعر بالتاريخ عن طريق حمل الأمل بالتجديد القومي السياسي والروحي, إن لم يكن عن طريق الدعوة للعنف والثأر. إن الشعر هو القابلة القانونية للقومية, ونادراً ما يحمل جرعات من العنف ويوتوبيا الماضي". رغم ذلك ليس ثمة إنكار لما ما يفعله الأدب, شعراً ورواية, على هوامش تكريس هوية وطنية قومية جامعة لجهة بارزة وتهميش الأقليات الإثنية والدينية التي لا تنتمي بإثنيتها أو طائفتها للغالبية العامة. لعبت الرواية والشعر والأدب بشكل عام دوراً مهماً في تشكيل الهوية وتصوير الأمة والأوطان في السياق العربي. ولئن كان التركيز ابتداءً وكما يقول الكتاب على غلبة الهم القومي في الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين, فإن تنوع ذلك الأدب وانهماكه في تخليق هويات وطنية وقطرية برز بوضوح في مراحل لاحقة. في المرحلة الأولى وحيث وطأة الاستعمار الأوروبي على الأرض العربية انخرط الأدب بشكل مباشر وغير مباشر في التعبئة العامة ضد الوجود الاستعماري والمناداة بأمة عربية متحررة وواحدة. وكان الشعر الشفاهي المتناقل بسهولة, في مجتمعات غالبيتها تعاني من الأمية الأبجدية, يمثل أداة تحريض من ناحية, وتوحيد للمشاعر القومية من ناحية أخرى. وقد لعب شعر محمود سامي البارودي, وأبو القاسم الشابي, وأحمد شوقي، دوراً هائلاً في تخليق رابطة قومية قائمة على ركني معاداة الاستعمار والتحرر والوحدة. لكن في مراحل لاحقة, خاصة إبان حقبة الاستقلال الوطني, برزت آداب صارت منهمكة أكثر في تشكيل الهويات الوطنية الأصغر, وإنْ لم تنفك من قاعدة الدعوة للتحرر التام من النفوذ الأجنبي. ففي مصر وكما يقول "جيف شالان" مثلت الروايات الأولى مثل "عودة الروح" لتوفيق الحكيم, و"زينب" لمحمد حسين هيكل، بروزاً جديداً لنوع جديد من الكتابة الذي لم يعهده الأدب العربي من قبل وعكس منذ نشأته الجنينية الهم الوطني المصري. وفي السودان في مرحلة لاحقة، كان الشعر الشعبي هو الآلية للتعبير عن الأشواق القومية بعامة, ثم عن الهوية السودانية والوطن السوداني قيد التشكل والاستقلال. وفي الإطار نفسه كانت كتابات المهاجرين اللبنانيين المكتوبة بغير العربية طافحة بالنزعة الوطنية اللبنانية. يبقى القول إن الغوص في ثنايا العلاقة بين الأدب والأمة ليس في الشرق الأوسط فحسب, بل وفي فضاءات أخرى يقدم لنا أفهاماً متجددة وممتعة حول الأدب وحول قيام الأمم كليهما.