نادراً ما يحدث في السنوات الأخيرة، أن تشهد الساحة السياسية العربية، أموراً تَسُرُّ، لكن مؤخراً وفي أسبوع واحد حدثت أمور مهمة. أول تلك الأمور إعلان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن برنامجه للمصالحة الوطنية، والحصول من الجمعية الوطنية العراقية على موافقةٍ عليه. وثاني تلك الأمور توقيع الفصائل الفلسطينية المختلفة، وعلى رأسها "فتح" و"حماس" على وثيقة الأسرى، والتي قد تعني بداية تجاوُزٍ للانقسام، ولأخطار النزاع الداخلي الفلسطيني المسلَّح. أما المصالحة الوطنية العراقية؛ فيمثل برنامجها أولَ خطةٍ شاملة في هذا الخصوص منذ الغزو الأميركي. وهي تتميز، بالإضافة للشمول، بثلاثة أمورٍ أُخرى: الاعتراف بالأخطاء والتجاوُزات في مراجعةٍ شجاعة، لا تستثني "حزب الدعوة" (ينتمي إليه المالكي). والاعتراف بالمقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، وإبداء الاستعداد للحديث معها وإشراكها في القرار. والاعتراف أخيراً بالخلل في إدارة البلاد عن طريق تغييب السنة أو إضعافهم، والإعلان عن الاستعداد لحلّ هذه المشكلة بالتشاور، وبإجراءات بناء الثقة. والواقع أنّ خطة المالكي شديدة الجدية، ولا تجاملُ أحداً، بما في ذلك الاحتلال الأميركي وإيران. بيد أنّ الصعوبات أمامها جمة؛ فهي أولاً تريد إصلاح أجهزة الدولة الأمنية (الجيش والشرطة والمخابرات) وتطهيرها من الفساد وفِرَق الموت المتفشيةٌ فيها. ولدى الحكومة خياران لتحقيق ذلك: أولهما اللجوء لتسريح العناصر غير المنضبطة، اعتماداً على بعض الكتائب المدرَّبة في الخارج والاستعانة بالجيش الأميركي لتسريع التدريب للعناصر الجديدة المأمونة، والاستعانة به في إنفاذ عمليات التسريح ونزع السلاح وقمع التمردات. والمعلومات المتوافرة تفيد بأنّ الكتائب والفِرَق المأمونة من الشرطة ليست كثيرة، كما أنّ الجيش يعاني اختراقات أمنية مؤثّرة. ثم إنّ الاعتماد على القوات الأميركية ما عاد مقبولاً من المواطنين، فضلاً عن أنّ هذه العملية لا بداية لها ولا نهاية. بيد أنّ الأصعب هو الأمر الثاني، أي تجريد الميليشيات– وبخاصةٍ الشيعية- من السلاح. وأرباب الميليشيات الكبرى (المجلس الأعلى وحزب الدعوة) مشاركون في السلطة، بل هم عمادُها، وسيكون تعاوُنُهُم صعباً ومتردداً ويخالطُهُ كثير من الاحتيال. ولن يمكن الاعتمادُ على همة الأميركيين أو الجيش العراقي في تجريد الميليشيات السنية الصغيرة، ولا في تجريد ميليشيا مقتدى الصدر. إذ أنّ ذلك قد يُحدثُ فتنةً لا تُحمدُ عُقْباها، وهكذا لا بد من تفاوُضٍ طويلٍ من أجل الالتزام الذاتي من جانب الجميع، عندما يشعرون بالأمن والثقة. ويبقى العاملان الإيراني والأميركي. العامل الإيراني سيكونُ حاسماً في الاستقرار أو الفوضى. والغريب انّ إيران ما عملت كثيراً حتى الآن على إعانة حلفائها (حزب الدعوة والمجلس الأعلى)، وتركت الانقسامات تتفاقمُ في صفوف الشيعة الحاكمين وغير الحاكمين. ولعلها تنتظر دعوتَهُم لها، أو إدخال ذلك في عمليات التفاوُض مع الولايات المتحدة. فالاستقرار العراقيُّ الآن مصلحةٌ أميركيةٌ وليست إيرانية. وعند إيران الوقت الكافي لتقدير الزمن الذي يناسبها لممارسة "وصاية" أمنية على العراق، بموافقة أميركية أو بدونها. وكان إيراهيم الجعفري رئيس الوزراء المؤقت السابق، وزميل المالكي، قد زار طهران ثم زار تركيا بعد ذلك. فهل فشلت مساعيه للحصول على دعم إيران الكامل، ومن ثم ذهب إلى تركيا (وهي زيارةٌ أثارت سخط الأكراد والشيعة على حدٍ سواء) سعياً لاستعادة التوازُن القديم؟ لا ندري، لكنّ المالكي يحتاج إلى رحلةٍ أو أكثر إلى طهران للتفاوض على ترتيب أوضاع البيت الشيعي بالعراق، والذي هو بمثابة "دارٍ بمنازل كثيرة"، على حد تعبير الإنجيل، وعنوان كتابٍ لكمال الصليبي عن لبنان! ويبقى أمر العامل الأميركي. الأميركيون لديهم 130 ألف جندي بالعراق، و50 ألفاً آخرون بمنطقة الخليج. وهم– إلى جانب المالكي- الطرف الأكثر مواجهةً للتحدي بالعراق الآن. وقد جاء الرئيس جورج بوش نفسُه إلى بغداد ليعلن تضامنَهُ مع حكومة المالكي (بالإضافة إلى تهنئته طبعاً بمقتل الزرقاوي!). وفي كل الأحوال من مصلحة الأميركيين أن يساعدوا المالكي؛ ولكنْ بالأسلوب الذي يقترحُهُ هو أو يراهُ ملائماً. ولن يفيد في شيء الآن تهديدُهُم باجتياح المزيد من المناطق السنية بحجة مطاردة الإرهاب؛ إذ أنّ ذلك سيجعل مهمة المالكي- الصعبة أساساً- أصعب. ومن المفيد الآن أن تتساوقَ خطوةُ المالكي المهمة مع مساعٍ عربية سابقة لمتابعة مؤتمر الوفاق الوطني الذي بدأت أولى حلقاته بالقاهرة، وتأجل مراراً بعد ذلك. إذ يفترض أن تنعقد حلقته الثانيةُ ببغداد، والأفضل أن يتمَّ ذلك قريباً بعد اكتمال حكومة المالكي، وإعلانه خطة للمصالحة الوطنية. ووثيقةُ الأسرى الفلسطينيين التي جرى التوقيع عليها قبل أيام، تُغلِقُ أولَ ما تُغلقُ البابَ أمام اتّساع الانقسام بين "فتح" و"حماس" أو بين السلطة والحكومة(!). لكنها أيضاً تفتح الأُفُق أمام التفاوُض على تشكيل حكومة وحدة وطنية ما دام الاتفاقُ على الخطوط العريضة للمنهج الوطني قد تمَّ من خلال التوقيع على الوثيقة. لكنْ ما تزال هناك خلافاتٌ واسعةٌ على الأرض؛ ومنها الاجتياح الإسرائيلي الحالي لقطاع غزة بعد عملية النَفق الشهيرة. أبو مازن وأجهزته يبحثون جميعاً عن الجندي الإسرائيلي المخطوف، وقد تعرف وزارةُ الداخلية الفلسطينية مكانه لكنها لا تدلُّهُم عليه! إنّ الاتفاق الفلسطيني لا يتعرض فقط لخطر الانفراط نتيجة الضغوط العسكرية الإسرائيلية، بل ويتعرض للضغط من كون الجانب الدوليَّ لا يراهُ كافياً أو مسوِّغاً لفك الحصار عن الحكومة، وفي الحقيقة عن الشعب الفلسطيني! ثم إنّ الجانب العربيَّ باردٌ تُجاه التطورات المتسارعة باستثناء اهتمام مصري بالتوفيق بين "حماس" و"فتح". وقد دلَّت عملية النفق على أنّ هناك أجنحةً في "حماس" لا يُهمُّها أن تبقى الحكومة لأنها تُقيّدُ العمليات العسكرية، ولا تسمحُ بالاستجابة لمطالب إيران وسوريا بالكامل. ومع ذلك؛ فالفلسطينيون أثبتوا في ظروفٍ سابقةٍ أنهم يستطيعون الاحتفاظ بقرارهم المستقلّ نسبياً، رغم المخاطر التي تُحيطُ بهم دائماً داخل فلسطين وخارجها. والتضامُنُ العربيُّ مُهمٌّ الآن للفلسطينيين أكثر من أهميته للعراقيين. إذ لا بد من اتصالاتٍ بإسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، وهذه الاتصالات يستطيع المصريون والأردنيون القيامَ بها؛ فضلاً عن الاستمرار العربي في الدعم والدفع باتجاه الاتفاق على خطة السلام العربية، وعلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. ما يحدُثُ في العراق وفلسطين من مُصالحات، قد يُعتبرُ أمراً استثنائياً؛ ففي البلدين نجحت أطرافٌ في الانتخابات، ووصلت للسلطة، وشكّلت الحكومة، لكنها ما استطاعت نشر الاستقرار، والانفراد بالحكم. ذلك أنّ خصومَها مسلَّحون أيضاً، ولهم مطالب لا يمكنُ تجاهُلُها. لكنّ الذي يبدو أنّ نهج المصالحات، سيُصبحُ عاماً في عصر الديمقراطيات العربية الجديدة. فالانتخاباتُ والفوزُ فيها غير كافيين- مهما كانت حرة وشفافة- لشرعنة التداوُل السلمي للسلطة. ذلك أنّ القوى السابقة، والتي سادت على مدى عقود، تستطيعُ عرقلة عملية التحول، بحقٍ أو بباطلٍ، حتى يجري إشراكُها وإن بنصيبٍ أقلّ في السلطة الجديدة. وما يجري في لبنان شيء من هذا. فقد استطاع تيار المستقبل بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري، الفوزَ هو وحلفاؤه في الانتخابات، والوصول إلى أكثرية بمجلس النواب تبلُغُ الـ60%. لكنه ما استطاع تشكيل الحكومة بمفرده؛ لأنّ الشيعة- وهم طائفةٌ أساسيةٌ في الكيان اللبناني- فرضوا المشاركة في الحكومة، والبقاء في الوقت نفسِه في المعارضة. وعندما تعذرت مُشاركة عَون في الحكومة، أُوجدت صيغة "هيئة الحوار الوطني" التي تضمُّ عون أيضاً، ولتتخذ قراراتٍ تنفّذها الحكومةُ وإن لم يكن كلُّ المحاورين مشاركين فيها. وصحيحٌ أنّ "حزب الله" في لبنان يستقوي بسلاحه؛ لكنْ حتى لو لم يكن عنده سلاحٌ، وأجمعت الطائفة الشيعية على الجمع بين المشاركة والمعارضة لما أمكنَ صدُّها! وجرى ائتلافٌ بالمغرب رغم عدم وجود السلاح بأيدي الأحزاب. يبقى علينا إذن أن نُراقب بدقةٍ خلال الأسابيع المقبلة ما يجري بالعراق وفلسطين. فهناك يحدثُ أمران داخليان مهمان، والتوافقُ الوطنيُّ في البلدين أمام تحدٍ كبير، بعد أن تبين أنّ المصالح الوطنية لا تُحفظُ إلاّ بهذه الطريقة. وإذا شئنا أن نكونُ أكثر دقة: لقد تبيَّنَ أنّ إشراك الجميع شرطٌ ضروريٌّ لعدم التردّي في الحرب الأهلية!