منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001, أولت الإدارة الأميركية اهتماماً كبيراً بتشجيع الإصلاح وعملية التحول الديمقراطي في دول العالم العربي. أما الفرضية التي قامت عليها سياسات أميركا, فهي وجود صلة ما بين سلوك الأنظمة الأتوقراطية الحاكمة في المنطقة, وظاهرة التطرف الراديكالي الإسلاموي, كما هي مجسدة في نشاط تنظيم القاعدة ومؤيديه. غير أن معطيات الواقع العملي تقول إن عملية التحول الديمقراطي للمنطقة تظل هدفاً نبيلاً يلقى التأييد من كثير من الإصلاحيين في العالم العربي. ومع ذلك فإنه لا بد من الإقرار بأن الإسلاميين وأحزابهم سيظلون قوة سياسية مؤثرة لا يمكن الاستهانة بها, لا الآن ولا في المستقبل القريب المنظور. وقد أكدت هذه الحقيقة نتائج الانتخابات الحرة النزيهة التي أجريت مؤخراً في كل من فلسطين ومصر والمغرب. وعلى الرغم من وجود تباين كبير بين مختلف القوى والأحزاب الإسلامية في المنطقة, فإن ثمة أملاً في أن يأتي الوقت الذي يطرأ فيه تغيير ما على مواقفها وبرامجها. وهناك من الشواهد ما يؤكد أهلية هذه الأحزاب في بعض الدول العربية, وتغليبها للكفاءة على عنصر التطرف الديني. وبسبب نتائج الانتخابات الأخيرة, وتردي الوضع الأمني في العراق, وعلى رغم تشكيل حكومة منتخبة ديمقراطياً هناك, فقد اضطرت إدارة بوش إلى التخفيف من نبرة دعوتها الأولى لنشر الديمقراطية وتوسيع رقعة الإصلاح السياسي في منطقة الشرق الأوسط, متبوعاً بالعودة إلى سياسات أميركا التقليدية المتبعة من قبل. وتشمل تلك السياسات العمل مع الأنظمة الإقليمية الحاكمة, حتى وإن كان سجلها في مضمار حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني, لا ينسجم والقيم الأميركية. وقد بدا هذا التنازل سلفاً في علاقات واشنطن الراهنة مع كل من المملكة العربية السعودية وباكستان, اللتين تعرضتا لضغوط أميركية مكثفة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر, بغية دفع عجلة الإصلاح السياسي فيهما. واليوم ومع تزايد حدة النزاع الفلسطيني الداخلي بين كل من منظمة "فتح" وحركة "حماس", فإن السؤال الرئيسي الذي تواجهه الإدارة, هو ما إذا كانت ستبقى على تمسكها بأولوية الإصلاح السياسي على غيره من القضايا, في وقت يزداد فيه الوضع الأمني تردياً, سواء كان في أفغانستان أم العراق أم في الساحة الفلسطينية؟ وفي حالة العراق فإنه ينبغي على الإدارة أن تعطي أولويتها القصوى لتشكيل حكومة وطنية أكثر استقراراً, من خلال التنسيق والتعاون المشترك مع السلطات العراقية في عملية أمنية واسعة النطاق, على إثر مقتل الزرقاوي. ولعله لا يزال غير مستبعد تحقيق نوع من الاستقرار في المدن والمناطق العراقية الأكثر بلبلة واضطراباً, لا سيما في العاصمة بغداد. ولكن يبقى السؤال: بأي تكلفة سيتم هذا, وأي شكل من أشكال الحكم ستخلفه هناك هذه السياسات برمتها؟ تجدر الإشارة هنا إلى مذكرة في غاية الصدق والأمانة كان قد بعث بها السفير الأميركي زلماي خليل زاد إلى كل من البيت الأبيض والخارجية الأميركية, عقب مصرع الزرقاوي مباشرة. ووصف السفير في مذكرته تلك, الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية التي يعيشها المواطنون في بغداد, بناء على إفادات العراقيين العاملين في السفارة الأميركية. كما جاء في تلك الرسالة أنه يجري عملياً فرض قوانين جد محافظة وتقليدية على أهالي كل من منطقة وحي من أحياء العاصمة بغداد وغيرها من المدن, مع ملاحظة أن الكثير منها تفرضه الميليشيات الطائفية المسيطرة. وبالنتيجة فقد تعين على العراقيين– خاصة النساء- الخضوع لقوانين أشد محافظة وتقييداً لحرياتهم الشخصية. بينما تعين على النساء تغطية وجوههن ورؤوسهن على نحو لم يعرفنه مطلقاً في ظل نظام صدام حسين. وعليه وإذا كانت غاية ما حققه الغزو الأميركي للعراق, تحقيق الاستقرار على حساب مصادرة الحريات الشخصية للمواطنين, وفرض نظام حكم إسلاموي شمولي عليهم, فإنه جدير بمن دقوا طبول الحرب وهرولوا بالجيوش نحو العراق, بهدف جعله نبراساً للديمقراطية والحريات على الطراز الغربي, أن يدركوا فداحة الخطأ الذي ارتكبوه.