فضلت أن أكتب هذا المقال قبل يوم الانتخابات الكويتية التي جرت يوم 29/6/2006، فالذي عاشته الكويت يوم الخميس الماضي نقلة نوعية كبرى في حياتها البرلمانية وأوضاعها الانتخابية، بعد أن دخلت المرأة المعمعة، وبعد أن فوجئ الرجال والنساء معاً بالحل الدستوري للمجلس، قبل عام من موعد انتهاء دورته. فكأن مرحلة كاملة من تجربة الكويت الديمقراطية، بحقبتها الرجالية قد انتهت، وبدأت "حقبة" جديدة، تضاعفت فيها أعداد الناخبين بانضمام النساء، وتزايد اهتمام الشباب بالعمل السياسي، وتبلورت قضايا واتجاهات عديدة...وهكذا! معظم الإسلاميين يعتقد أن المرأة ستصوت لصالح تيارهم، وكل الليبراليين مبتهجون بحصول المرأة على حقوقها السياسية. الزميل أحمد الصراف كتب في صحيفة "القبس" يقول: "لو قمنا بإجراء جردة سريعة على أحوال الرجال كافة، الذين تناوبوا على الكرسي النيابي، وبالذات في السنوات الثلاثين الماضية، لتبين لنا أن قلة قليلة جداً منهم فقط استطاعت (بشق الأنفس) المحافظة على نقائها السياسي ومقاومة إغراءات التربُّح من وضعها النيابي، أما الغالبية فقد خرجت من المجلس وهي تجر وراءها أكياس الثروة جراً!". مضى حتى الآن أكثر من أربعين عاماً على الديمقراطية الكويتية، وثمة اليوم مطالب متعددة بتعديل الدستور وتخفيض سن الناخب والسماح للعسكريين بالمشاركة وغير ذلك. ولكن ما لفت نظري هو افتقارنا الى دراسات شاملة لها. ولا زالت أحكام كثيرة تصدر على إيجابيات التجربة وسلبياتها بشكل انطباعي ومتسرع. وما هو مطلوب هنا هو دور أشمل وأشد فعالية لرجال القانون الدستوري من الأكاديميين وأساتذة العلوم السياسية والمحامين في إثراء الوعي الشعبي وتفهم واقع النصوص ومتطلبات الإصلاح. ولكن حتى لو توفر هذا الجهد، فهناك مخاوف الليبراليين بالذات من تغيير بعض مواد الدستور، وبخاصة ما يمس منها دور الدين والشريعة وقضايا الحريات. فالدستور الكويتي نتاج مرحلة ليبرالية عربية شملت مصر وغيرها. ولو كان لهذا الدستور أن يكتب اليوم لدار جدل واسع حول بعض مواده بين الإسلاميين والليبراليين، كالمادة الثانية، التي تعتبر الشريعة الإسلامية "مصدراً رئيساً" للتشريع لا المصدر "الرئيس" أو الوحيد، والمادة (35) التي تقول" "حرية الاعتقاد مطلقة"، فمن من الإسلاميين مثلاً يوافق على المادتين، بهذه الصياغة، لو كان الأمر بيده؟ ومن ملاحظات دارسي الدستور الكويتي أنه ينص في مادته السادسة على أن "نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً"، ولكنه ينص في مادته الأولى على أن "شعب الكويت جزء من الأمة العربية". فمن مصدر السلطات في البلاد، "شعب الكويت"...أم "الأمة العربية"؟ ومن المعروف في كل التجارب الدستورية الليبرالية أن الديمقراطية تعتمد في ديمومتها على "الطبقة المتوسطة"، التي تحمي الحياة السياسية من التطرف، وتشكل العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي. ولكن من هي هذه الطبقة في الكويت؟ وما مدى استقلاليتها الإنتاجية وحجم الضريبة المالية التي تساهم بها في الدخل الوطني كي تترجم ذلك نفوذاً سياسياً؟ فنحن نرى هذه الشريحة العريضة من المواطنين تعتمد في أغلب الأحوال على الوظيفة الحكومية والكادر الوظيفي للدولة، وتشكل رواتب الموظفين نحو 90% من ميزانيات مختلف الوزارات، مما يجعلها في الواقع بعيدة كل البعد عن مفهوم ودور الطبقة المتوسطة في أوروبا وأميركا والهند واليابان، بل إننا نرى أن كبار التجار والمستثمرين الكويتيين يعتمدون كذلك على المشاريع والمناقصات الحكومية، وعلى ميزانية الدولة الشديدة التأثر بالدخل النفطي، كما أن الشريحتين الوسطى والعليا لا تدفعان أي ضرائب دخل أو ضرائب مبيعات أو حتى ضرائب تركات. ومثل هذا الوضع هو الجنة بعينها في أحلام مواطني الدول الديمقراطية الغربية والآسيوية، ولكن واقعا حقيقيا لا يستحق التفاتاً من أحد في الكويت والدول الخليجية! ولعل هذا الاعتماد المطلق على "ريع النفط" في الحياة الاقتصادية، وعدم الشعور بضغوطات العمل والبطالة والتصدير بالشكل الذي نراه في تلك المجتمعات الغربية والآسيوية، هو الذي تسبب في تعايش الثراء المادي مع المحافظة الاجتماعية الشديدة في بعض الأوساط الكويتية والخليجية إن لم نقل في أغلبها. ومن هنا، لعبت النخبة الاقتصادية والسياسية بأفكارها التحديثية دوراً مهماً في تعميق الوعي في الماضي والحاضر، وهو دور أدى في مسيرته خلال القرن الماضي، عبر تجارب 1921 و 1938 وأخيراً 1962، الى تبلور الدستور الكويتي والممارسة الديمقراطية المبنية عليها. ولكن هل يمكن لهذا النمط من الحياة السياسية الاقتصادية أن يستمر في الكويت، وربما في دول خليجية أخرى، إذا اتسعت قاعدة المواطنة وتضاعف عدد السكان؟ كلا بالطبع. فثمة اليوم ومنذ فترة طويلة، تشبع معيق إنتاجياً من العمالة الوطنية في مختلف الوزارات، وهناك آلاف آخرون ربما يتم توظيفهم قريباً في نفس الإدارات التي تعاني مما يسمى عادة بـ"البطالة المقنعة" رغم دخول الكمبيوتر والإدارة الإلكترونية وغيرهما! ومن عجائب التقليد البحت في إداراتنا، التحول الى "البدالة الآلية"، التي تلجأ إليها أميركا وأوروبا بسبب ارتفاع الأجور ورغبة في الاستغناء عن العمالة بقدر المستطاع. ولكن أين التوفير في مجتمعاتنا الخليجية وربما العربية خارج دول الخليج، وأعداد كبيرة من الموظفين لا يكاد الواحد منهم يعمل شيئاً طوال النهار، بل وحتى عندما تحيلك "البدالة الآلية" في نهاية الأمر، الى موظف أو موظفة البدالة، لا يرفع أحد سماعة التليفون... إلا بارتفاع ضغطك! ولا شك أن من الضرورات اليوم تنشيط القطاع الخاص وتقليص دور الدولة في مجال الإنتاج والخدمات وتشجيع الشباب على دخول المجالات التجارية والمهنية والصناعية، والاستغناء بالتالي عن "الوظيفة الحكومية" المقدسة في كل العالم العربي والنامي. ولكن ما يضر بهذا التوجه أشد الضرر، ربما هو التسرع والارتجال من جانب، وانتقال عيوب وأمراض القطاع الحكومي الى القطاع الخاص... من جانب ثان. ولعل المشكلة الأساسية هنا القطاع الخاص والدولة على حد سواء، بل ثمة قدر من اللوم لابد أن يوجه للعمالة المحلية كذلك في هذا المجال. وتبرز في الكويت حاجة ماسة الى أن يتم دعم الديمقراطية فيها بثقافة إنتاجية ووظيفية جديدة، وإلى ابتكار وسائل جديدة في بناء المؤسسات والشركات، وإلى إعادة تحديد لمسؤوليات الدولة والقطاع الخاص والمواطن. ومن المؤسف أن المعارك الديمقراطية والدعايات الانتخابية، ومنها ما شهدناها في الكويت خلال هذا الشهر، وقودها الأساسي نقد الحكومة ومهاجمتها بمرارة وبحرارة، وتمجيد الشعب وإخلاء طرفه من كل نقيصة وعيب أو تقصير. فأي جمهور يحب خطيباً يذكره بنواقصه وسلبياته؟ وهكذا، علينا جميعاً كمواطنين كويتيين، بعد أن انتهت "الحقبة" السابقة وبدأت المرحلة الجديدة، أن ندرك أن توجيه اللوم سهل والمساهمة في البناء من أصعب الأمور. خليل علي حيدر