كثيرة هي الأسئلة التي تتردد حول أسباب عزم النظام الستاليني الحاكم في كوريا الشمالية في هذا الوقت بالتحديد على إجراء تجربة على صاروخ باليستي جديد عابر للقارات. أما الأجوبة فمعظمها لا تخلو من الإشارة إلى ما بات سمة راسخة في نهج بيونغيانغ، ألا وهي التصعيد كلما شعرت بانحسار الاهتمام العالمي عنها لصالح أزمات دولية أو إقليمية أخرى، أملاً في استعادة قدرتها على ابتزاز المجتمع الدولي من أجل المزيد من المساعدات. فمع تعثر المحادثات السداسية حول برامجها النووية، رغم كل التوقعات الإيجابية التي أحاطت بعودتها إلى طاولة المفاوضات من بعد تهرب، وتركيز المجتمع الدولي والقوى الكبرى جل اهتمامها على الملف النووي الإيراني، لم تجد كوريا الشمالية وسيلة أفضل لاستعادة الاهتمام بها سوى تسريب أخبار عن قرب إجراء اختبار للجيل الثاني من صواريخها بعيدة المدى المعروفة باسم "تايبودونغ"، وهي تدرك مسبقاً الصدى المزعج الذي سيحدثه مثل هذه التجربة في واشنطن وعواصم الدول الحليفة في منطقة شمال شرق آسيا. فإذا كانت تجربة إطلاق الجيل الأول من هذه الصواريخ قد أحدثت دوياً وصخباً في واشنطن وطوكيو لم يهدأ إلا بتقديم الاعتذار وتبرير العمل بمحاولة وضع قمر اصطناعي في مدار حول الأرض لأغراض إعلامية، فإنه من باب أولى أن يكون لإطلاق الجيل الثاني الأكثر تطوراً والأبعد مدى صدى مضاعف. فالصاروخ "تايبودونغ-1"الذي انطلق من مقاطعة "هامغيونغ" الشمالية الساحلية في 31 أغسطس 1998 ليعبر اليابان ويسقط في مياه الباسفيكي بالقرب من جزيرة "هونشو" اليابانية كان ذا مدى لا يتجاوز 4000 كيلومتر وقدرة على حمل ما بين 50 إلى 100 كيلوغرام من الرؤوس الحربية فقط، فيما يفترض أن يكون مدى الصاروخ "تايبودونغ-2 " أكثر من 6700 كيلومتر مع قدرة على حمل ما بين 700 إلى 1000 كيلوغرام من الرؤوس الحربية. ومعنى هذا أن القواعد العسكرية الأميركية في "أوكيناوا" وغوام وألاسكا وهاواي ستكون في مرمى الصاروخ الجديد، علما بأن بيونغيانغ تعمل حالياً على تطوير الجيل الثالث من هذه الصواريخ بحيث يتعدى مداها 10000 كيلومتر وتتجاوز قدرتها على حمل الرؤوس الحربية الألف كيلوغرام، وبالتالي إمكانية استهداف أي ولاية أميركية. على أن مخاوف واشنطن لا تقتصر على وقوع قواعدها وأراضيها وأراضي حليفاتها الآسيويات في مرمى الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية فقط، وإنما تشمل أيضاً الخوف من احتمالات وصول مثل هذه الصواريخ إلى دول أخرى مشاغبة عن طريق البيع أو المقايضة، خاصة وأن لنظام بيونغيانغ تاريخاً حافلاً على هذا الصعيد. فطبقا للخبير المعروف في الشأن الكوري الشمالي "جوزيف بيرموديز" والإعلامي "بيرتيل لينتنير" صاحب أحد أهم الكتب عن أوضاع كوريا الشمالية تحت قيادة "كيم آل"، حصلت بيونغيانغ على مدى الأعوام الطويلة الماضية منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي حينما وقعت اتفاقية للتصنيع العسكري مع الصين، على عوائد مالية كبيرة من جراء تسويقها للصواريخ أو مكوناتها أو تكنولوجياتها، وبما ساعدها على الإنفاق على برامجها النووية وبالتالي الاستمرار في المشاغبة والابتزاز. ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن بيونغيانغ عرضت على واشنطن أثناء مباحثاتهما الثنائية في عام 2000 أن تحصل على تعويض سنوي بقيمة مليار دولار مقابل التوقف عن تصدير الصواريخ والأسلحة الأخرى إلى الخارج. وشملت قائمة زبائن كوريا الشمالية دولاً مثل مصر وسوريا وليبيا وإيران وباكستان، غير أن الدولتين الأخيرتين كانتا الأكثر تعاوناً واستفادة من تكنولوجيات الصواريخ الكورية الشمالية في تطوير برامجهما الصاروخية الذاتية وإنتاج نسخ من صاروخ "هواسونغ" قصير المدى وصاروخي "نودونغ" و"رودونغ" متوسطي المدى تحت أسماء محلية مثل "شهاب" كما في حالة إيران أو"غوري" كما في حالة باكستان. في أسباب لجوء بيونغيانغ إلى التلويح بصواريخها في هذا الوقت، قيل إنه محاولة كورية شمالية لتخفيف الضغط عن النظام الإيراني الذي تشترك معه في العداء ضد الولايات المتحدة والغرب وترتبط به بعلاقات تجارية وعسكرية. غير أن الأقرب إلى الصحة ربما كان الضغط من أجل الحصول على حزمة من الحوافز والمزايا والمساعدات الشبيهة بتلك التي تقدم بها الغرب مؤخراً لإيران كوسيلة لإقناعها بوقف برامجها النووية. إذ يبدو أن حكام بيونغيانغ تملكتهم الغيرة مما هو معروض على طهران من حوافز كثيرة لم تطرح عليهم، على الرغم من عدم بلوغ قدرات إيران النووية مستوى متقدما كقدراتهم. وأيا تكن الأسباب، فان الأمور قد تتعقد في حالة الإقدام فعلاً على تجربة الصاروخ "تايبودونغ-2" على نحو مغاير لما يشتهيه الكوريون الشماليون. فالولايات المتحدة التي اكتفت حتى الآن بتشديد الخناق على عمل المؤسسات والمصارف الكورية الشمالية في الخارج ومنح حق اللجوء السياسي لكل منشق كوري شمالي، قد تلجأ إلى فرض عقوبات إضافية مثل مطاردة الأصول والممتلكات الشخصية للزعيم المبجل "كيم"، وزيادة عمليات الاستطلاع والمراقبة ونشر المزيد من القوات في شمال شرق آسيا، إضافة إلى استخدام الحدث للتدليل على نوايا بيونغيانغ العدوانية وبالتالي الضغط على الصينيين ليقوموا بدورهم بالضغط عليها والكف عن لعب دور محامي الشيطان. واليابان، التي أقر برلمانها مؤخراً قانوناً جديداً يمنح الحكومة حرية مطلقة في فرض عقوبات اقتصادية على بيونغيانغ ما لم تسجل الأخيرة تقدماً في مجال احترام حقوق الإنسان بما في ذلك حل موضوع المواطنين اليابانيين الذين اختطفهم النظام الكوري الشمالي في السبعينيات، قد تلجأ إلى منع التحويلات المالية التي يقوم بها أفراد الجالية الكورية الشمالية الكبيرة في اليابان، ومنع زيارة السفن الكورية الشمالية للموانئ اليابانية، بما في ذلك تجميد خط الملاحة الرئيسي بين البلدين والرابط بين ميناء "نيغاتا" الياباني وميناء "وونسان" الكوري الشمالي. أما كوريا الجنوبية التي خاطر رئيسها "روه مو هيون" بعلاقات بلاده مع الحليف الأميركي بإقدامه على منح المزيد من المساعدات الاقتصادية لبيونغيانغ دون اشتراطات وبالتعارض مع الموقف الأميركي أملاً في ترويض النظام الشمالي، فقد تضطر أيضاً إلى تجميد مثل هذه المساعدات وتأجيل النظر في خطوات تعاونية أخرى، لا سيما في ظل الضغوط الداخلية المتنامية الداعية إلى ضرورة أن يكون هناك مقابل ملموس لكل ما تقدمه سيؤل لجارتها المشاغبة. ويُشار في هذا السياق إلى أن عدم نجاح الرئيس "روه" في قطف أية ثمار من وراء مواقفه الودية تجاه كوريا الشمالية، دفعت الحزب الحاكم إلى إبعاد نفسه عن سياسات رئيسه، بل إن الأخير نفسه بات يشعر بإحراج شديد بعدما قابلت بيونغيانغ مواقفه وجهوده الأخيرة في تسهيل مساعدات عاجلة للشمال بقيمة 80 مليون دولار بخطوات عدائية مثل رفض المضي قدماً في مشروع لإعادة ربط الكوريتين بخط حديدي والمطالبة بإعادة رسم الحدود البحرية. وأخيراً فإنه في الوقت الذي يحبس فيه الكثيرون أنفاسهم انتظاراً لما ستقدم عليه بيونغيانغ، فان بعض المحللين يأمل في أن تنفذ الأخيرة تجربتها الصاروخية، وذلك من منطلق أن الحدث سيتيح فرصة لقياس مدى ما بلغته صناعة الصواريخ الحربية الكورية الشمالية من تقدم، أو بعبارة أخرى التحقق عملياً من ادعاءات بيونغيانغ بقدرتها على تهديد الأراضي الأميركية.