العبارة المركبة "تغذية الوحش" استعارة يستخدمها الساسة البارعون في عالمنا اليوم للتعامل مع وسائل الإعلام على اختلافها، وهي عبارة تعني أن الساسة بحاجة ماسة إلى جعل الصحفيين ورجال الإعلام سعداء دائماً، وذلك عن طريق تزويدهم بالأخبار الحقيقية وغير الحقيقية في بعض الأحيان كي يتم وضعها تحت الضوء وذلك على مدار اليوم والأسبوع وبثها لعالم فضولي لا يشبع من الإثارة ومصادرها المتكاثرة. لكن ماذا يحدث لو كان الموضوع واقعياً وليس مجرد استعارة، خاصة أننا قد خلقنا بالفعل، وعلى مدى سنوات طويلة، وحشاً يهدد بالتهامنا جميعاً دون استثناء. قبل عشر سنوات من الآن، وفي عام 1996 بالتحديد، نشر "كينيث وولش" مراسل البيت الأبيض الأميركي لوكالة "يو إس نيوز وورلد ريبورت" كتابه الموسوم بـ"تغذية الوحش: البيت الأبيض في مقابل الصحافة"، والذي بيّن، عبر صفحاته الملأى بالمعلومات المثيرة، كيف يلعب الرؤساء ورجال الصحافة أدوارهم المحددة في تلك العملية. وعلى الرغم من أن العلاقة بين الطرفين، أي الساسة ورجال الإعلام، قد تبدو حسب الظاهر عدائية إلى حدما، فإنها في الحقيقة علاقة تكاملية ويعتمد فيها كل طرف على الآخر ويسخره لمصلحته. لكن العبارة التي أصبحت أثيرة منذ ذلك الحين، وهي "تغذية الوحش"، قد يكون لها معنى إضافي أكثر عمقاً وقتامة. فـ"الميديا" العالمية تعيش وتزدهر على تيار منهمر ومستمر على مدار الساعة من الأخبار والتغطيات والتقارير التي لا تستثني موضوعاً أو بقعة من الأرض، ولكن خارج الحدود الضيقة للنشاط الإعلامي في البيت الأبيض، فإن السلعة الأكثر رواجاً هي العنف والعنف المنظم اللذين يجتذبان المتابعين لوسائل الإعلام أكثر من غيرهما. فالقاعدة المعروفة في مجال الأخبار الصحفية هي أن الخبر الذي يتضمن أكثر المشاهد عنفاً ودموية هو الذي يتفوق على غيره في استقطاب المشاهدين والمستمعين والقراء، إنها قاعدة صالحة في كل مكان من العالم تتواجد فيه صحافة حرة أو حتى شبه حرة. فهؤلاء الذين يعرضون مشاهد العنف، والدمار، والدم، والموت... تتم مكافأتهم في أغلب الأحوال بالحصول على عدد أكبر عدد من جمهور المتابعين. وهذا هو السبب في أن الكوارث القومية تحتل مكاناً بارزاً للغاية في وسائل الإعلام. بيد أنه مع ذلك، يتوجب القول إننا لا نستطيع أن نلقي باللائمة على الصحف ووكالات الأنباء وشبكات الأخبار التلفزيونية عندما تركز على تغطية الكوارث الطبيعية، لأن كوارث الطبيعة، من زلازل وفيضانات وبراكين وأعاصير ومجاعات بسبب القحط... تظل في أغلب الأحوال شيئاً مهماً، ذلك أن هناك على الأقل قطاعاً كبيراً من المشاهدين يهتم بآلية حدوثها وبآثارها المدمرة، من باب الشفقة والتعاطف مع ضحاياها وليس حباً في المشاهدة فحسب. ولكن ماذا يحدث إذا ما افترضنا أن الإفراط في التغطية الإعلامية قد أدى إلى جعل الكوارث الطبيعية أسوأ مما هي عليه فعلاً؟ وماذا عن الإرهاب؟ هذان هما السؤالان العويصان اللذان وجههما كل من "برونو فري"، الأستاذ بجامعة زيوريخ، و"دومنيك روهنر"، الأستاذ بجامعة كامبردج، واللذين يريان أن الصحفيين والإرهابيين يلعبون معاً "لعبة مصالح مشتركة" يربح فيها الإرهابيون الشهرة والذيوع والانتشار والدعاية لأفكارهم، وتربح فيها "الميديا" من خلال زيادة نسبة المشاهدة والقراءة والاستماع، ومن ثم زيادة المبيعات والإعلانات وعائداتهما. ولعل هذه المعادلة -لو ثبتت صحتها- تشكل تهديداً للآراء التقليدية المتعلقة بالصحافة الحرة، أي الصحافة التي تتمتع بالحرية في تطبيق المعايير المهنية والتي تقوم باختيار أفضل القصص الخبرية وأفضل الصور، دون اعتبار يذكر لبقية العوامل الأخرى. وكحل جزئي يقترح "برونو وروهنر" عدم تسمية الإرهابيين في الأخبار والتغطيات الإعلامية، وذلك كوسيلة لحرمانهم من "المجد" الذي يتمتعون به نتيجة لاهتمام "الميديا" بما يقومون به من أعمال. ولكن المشكلة هنا أنه لا يوجد تعريف محدد ومتفق عليه للإرهاب والإرهابيين. فما يراه الغربيون، على سبيل المثال، عملاً من أعمال الفظاعة والوحشية والسادية، مثل عملية قطع الرؤوس التي كان يقوم بها أبومصعب الزرقاوي لرهائنه في العراق، تراه أوساط في العالم العربي، حتى وإن كانت قليلة ومعزولة، على أنه يمثل عملاً يستدعي التشجيع والتأييد. الآن وحتى بعد قتل الزرقاوي، فإن وحش "الميديا" ما زال بحاجة إلى مزيد من التغذية. فالعديد من المشاهدين في كافة أنحاء العالم لا تزال تستهويهم مشاهدة الصور العنيفة: منظر العبوات الناسفة وهي تنفجر، ومنظر القنابل وهي تتساقط من الطائرات وتدمر ما تحتها... فأي صور يقدمها محاربو العالم يستهلكها سكان العالم بنهم واضح. ولكن المشكلة التي يقدمها "فري وروهنر" هي أن "الميديا" بتصويرها لمشاهد العنف تقوم بوعي أو عن دون وعي بالتشجيع على هذا العنف. وذلك يذكرنا بسطور قديمة قرأناها في سلسلة رسوم كرتونية كوميدية بعنوان "بوجو" تقول: "لقد قابلنا الوحش. كان الوحش جائعاً ولذلك قدمنا له الطعام. وبعد أن التهم الوحش الطعام شعر بالجوع ثانية فغذيناه مرة أخرى. وإذا ما مضى الأمر على هذا النحو، فإنه سيأتي يوم يتغذى فيه الوحش علينا ويلتهمنا أيضاً... يلتهمنا جميعاً". جيمس بنكرتون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"