تزامن رفض المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي للضغوط الغربية بشأن برنامج إيران النووي، مع إشارة مدير الوكالة الدولية محمد البرادعي إلى عرقلة طهران للتحقيقات التي تجريها الوكالة. في ذلك الوقت -لربما مع قليل من التنسيق أو عدمه- فإن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أبدى "ليونة" غير مسبوقة في مواقفه المتشددة تجاه الموضوع النووي الإيراني. حيث اعتبر أثناء مشاركته في قمة شنغهاي للتعاون، قبل أسبوعين، أن العرض الذي قدمته الدول الكبرى -ومن بينها الصين- لإقناع إيران بتعليق تخصيب اليورانيوم يشكل "خطوة إلى الأمام"، وستتم دراسته بعناية، حيث أشار إلى أنه أصدر تعليمات لدراسة العرض بعناية. ما رشح عن عرض الدول الكبرى، أنها سوف توفر حوافز اقتصادية لطهران في حال موافقتها على تخصيب اليورانيوم. وملخص أزمة الملف النووي الإيراني يكمن في اشتباه دول غربية وأميركا بأن طهران تخفي نشاطات -تحت الطاولة- لإنتاج سلاح نووي وراء برنامج مدني لاستخدام الطاقة النووية، حيث تعترف دول عديدة بحق إيران بامتلاك طاقة نووية للاستخدامات المدنية. لكن هذه الدول، ومنها جيران إيران، ودول الخليج خصوصاً، ترى ضرورة إخلاء المنطقة، ومنطقة الشرق الأوسط -بما فيها إسرائيل- من السباق النووي، واستخداماته العسكرية. ولتداخل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين إيران ومجموعة من الدول الصناعية -غير الغربية- ومنها اليابان، التي تعتبر من أهم مستوردي النفط الإيراني، في ذات الوقت تحتفظ بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وبذلك فإن أية مواجهة إيرانية-أميركية ستؤثر على إمدادات النفط الإيراني لطوكيو. لذلك جاءت "نصيحة" اليابان لطهران "التحرك بطريقة مسؤولة". وقال الناطق باسم الحكومة اليابانية: "نريد من إيران أن تبدد القلق الذي تعرب عنه الأسرة الدولية، وأن تتحرك بطريقة مسؤولة". وهذه على ما يبدو "نصيحة" المصالح، ذلك أن اليابان لا تختلف مع الولايات المتحدة، وفي ذات الوقت، لا تريد "تعرية" إيران أمام المجتمع الدولي. كما تجد الولايات المتحدة نفسها ملتزمة أدبياً، ليس على المستوى الدولي فحسب، بل مع مجلس الشيوخ الأميركي الذي أيّد مبادرة واشنطن لتقليص التهديد النووي الإيراني والتعاون مع الوكالة الدولية، خصوصاً، وأن طهران لم ترد على عرض الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بشأن ملفها النووي (حتى كتابة هذا المقال). هل موقف المرشد الأعلى للثورة، يخالف موقف الرئيس؟ ونحن ندرك أن سياسة السلم والحرب الخارجية كلها بيد المرشد. وأن "التجربة الخاتمية" أجهضها المرشد، وإلا كان وضع إيران أكثر اطمئناناً من اليوم. يبدو أن "التلاعب بالألفاظ" صفة اكتسبتها الدبلوماسية الإيرانية، ونجحت فيها إلى درجة معينة. ولا يمكن الركون إلى خلافات الملالي مع النظام، ذلك أنهم هم النظام، هم الباقون والأنظمة تتغير. لقد شعرت إيران أنها مُحاصرة -في قضية ملفها النووي- خصوصاً من حلفائها مثل روسيا والصين، بل ومن فرنسا التي تحاول أن تلعب دوراً مهماً في قضية الملف النووي. وأن تصريحات محمود نجاد الأخيرة مختلفة تماماً عن تصريحات سابقة له. وما صرّح به وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي لا يختلف عما صدر عن الرئيس الإيراني، إذ قال الأول: إن العرض الأوروبي الأخير، إيجابي جداً، ويشكل خطوة إلى الأمام. وكان ممثل السياسة الأعلى في السياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا قد حمل العرض الأوروبي إلى طهران في السادس من يونيو، وتحدث منوشهر متقي إثر اللقاء بأن طهران تولي اهتماماً لدراسة العرض. ولا يقف الخليجيون موقف المتفرج على ما يجري حولهم، إذ أن وزراء النقل والمواصلات في دول مجلس التعاون، اعتمدوا خطة للطوارئ في حال إغلاق منفذي "هرمز" و"باب المندب"، ذلك أن إغلاق مضيق "هرمز" سوف يحرم العالم من الطاقة، ويهدد الملاحة البحرية، الأمر الذي يجعل دولاً من دول المجلس محاصرة اقتصادياً، وهذا يهدد بكارثة، خصوصاً في ظل "تخوف" خليجي من انتشار نووي يهدد الحياة في المنطقة بأسرها. كما أن المنطقة ذاتها لا تحتمل حرباً جديدة، مع استمرار النزيف العراقي والأميركي معاً. وقد تجد الإدارة الأميركية نفسها في وضع لا تُحسد عليه فيما لو أقدمت على محاربة إيران، ولو بخطوات تكتيكية محدودة! أما الهجوم الشامل، فتستبعده معظم الأطراف، لظروف دولية وإقليمية ولوجستية وشعبية داخل الولايات المتحدة ذاتها. إذن يبدو أن "المزاج الإيراني" يتجه نحو التهدئة، ولكن هذه ليست ثوابت، فلقد فاجأت السياسةُ الإيرانيةُ العالم بالعديد من المفاجآت. كما أن "التطمينات" التي يطالب بها المجتمع الدولي، وجيران إيران بـ"سلمية" الأنشطة النووية الإيرانية، لا تُحسب في قانون السياسة. لذلك فإن من تراهن عليهم إيران من "الكبار" في مجلس الأمن، لاشك سيضغطون على إيران لإقناعها بالتخلي عن تخصيب اليورانيوم، وقد تتعرض روسيا والصين -المدافعتان عن إيران في مجلس الأمن- إلى انتقادات شديدة إذا لم تستجب إيران للمطالبات الدولية بوقف تخصيب اليورانيوم! ولن يكون هنالك مفر من فرض عقوبات دولية، وهذا قد يُسقط في يد الدولتين اللتين تحتمي بهما إيران في مجلس الأمن. قد لا تصح كل التوقعات، وقد تنسف إيرانُ الطاولة التي بدأت أوراقها تهدأ! بل قد تواصل الولايات المتحدة لعبة العصا والجزرة، ويزداد الشحن الإعلامي والاحتقان السياسي، وقد تتطور المسائل بشكل كبير يؤدي إما لمواجهة عسكرية -وإن كانت محدودة- بين الولايات المتحدة وإيران، حيث يعتقد الخبراء أن قصف مدن إيرانية مهمة بواسطة الطيران أو الصواريخ، سوف يعيد إيران 20 عاماً إلى الوراء! أو نجاح حمائم السلام في الأسرة الدولية بفرض عقوبات دولية على طهران، وهو أمر أيضاً لا يسرّ الإيرانيين. نحن نعتقد أن التصعيد، وإحماء المنصات للمواجهة ليس في مصلحة أي طرف، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها، والتي ستضع حلفاءها في المنطقة في وضع محرج جداً لأسباب سياسية واستراتيجية. كما أن بعض -ولربما أغلب الحلفاء- لا يمانعون بعلاقات جيدة مع طهران، بل إن بعضهم يحتفظ بعلاقات ممتازة مع إيران، ويرى أن ضرب إيران ليس من فعل العقل. وهم ينطلقون من منطلقات وحسابات دقيقة بأن أية شرارة تنطلق على "بوشهر" أو طهران سوف تصل إلى العواصم الخليجية في آنٍ واحد. إن روح التهدئة التي تميزت بها السياسة الإيرانية خلال قمة شنغهاي، قد تدير المؤشرات الحمراء نحو المجال الأصفر أو البرتقالي، وهذا اتجاه جيد ويُحسب لإيران. لكن الإشكالية هنا، أن المجتمع الدولي و-مؤسساته- لا يعوّل على النوايا، بل يؤكد على وقف التخصيب وإغلاق المفاعلات المشكوك في "سلميتها"! ويجب على إيران أن تضمن ذلك وتهيئ المسرح للفعل الدولي. ولو حسبت إيران حساباتها جيداً، واكتسبت رضا المجتمع الدولي، فإنها سوف تقدم خدمة كبيرة للمسلمين، وتبدأ بعد بمطالبتها بضرورة انضمام إسرائيل للنادي الدولي في منع الانتشار النووي. وبذلك تفوز إيران بكلتا "الحُسنيين"، الاحترام الدولي والحوافز الاقتصادية التي ستنعش الاقتصاد الإيراني المتواضع. وهنا، نأمل أن تتفق رؤى المرشد الأعلى للثورة في إيران مع رئيس الجمهورية، ولتبدأ مرحلة جديدة في إيران ليس فيها خوف أو توجس.