"خبر عاجل: الرئيس الأميركي جورج بوش يطالب بجدول زمني لانسحاب الشعب العراقي من العراق"، هذه بطبيعة الحال نكتة يتبادلها العراقيون عبر الإنترنت، ولا نكتة تضاهي حصار العراقيين، طوال ثلاث سنوات، لسفارة القوة العظمى داخل "المنطقة الخضراء". تصوروا حجم النكتة الأخرى وهي رسالة السفير زلماي خليل زاد إلى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وقد نشرت مقاطع منها صحف غربية عدة. تتضمن الرسالة تفاصيل الفشل الذريع لأهم وظائف أي سفارة، وهي علاقاتها العامة. فما قيمة بناء أكبر سفارة أميركية في العالم في بلد يكِنُّ أهله أكبر الحقد على واشنطن؟ والحديث هنا لا يجري عن العلاقات العامة مع المجتمع المحلي خارج السفارة فحسب، بل داخلها أيضاً، وعلى مداخلها، وعند حواجزها الأمنية. فالرسالة تشكو من التصرف المهين والأسلوب "المليشياوي" لحرس نقاط التفتيش في "المنطقة الخضراء". بلغ الأمر حد طلب إحدى موظفات السفارة تزويدها بهوية صحفية، لأن الحرس لوحوا ببطاقة عملها عند مدخل "المنطقة الخضراء"، وهم ينادون بصوت عالٍ يسمعه المارة "سفارة". معلومات كهذه تعني الحكم بالموت، حسب الرسالة التي تصور كالعدسة اللاقطة الانهيار النفسي لدى الموظفين العراقيين في السفارة الأميركية. ويذكر خليل زاد أن السفارة توقفت منذ ستة أشهر عن استخدام مترجميها المحليين أثناء المؤتمرات الصحفية المصورة، وأحرقت أخيراً الوثائق التي تتضمن أسماء موظفيها العراقيين. ويخفي معظم الموظفين حتى عن أسرهم أنهم يعملون في السفارة الأميركية، وعند الاتصال بهم خارج أوقات الدوام يتحدثون بالعربية لخشيتهم من التحدث بالإنجليزية. ولا تستطيع السفارة الاتصال بموظفيها أثناء فترة نهاية الأسبوع، أو خلال العطل والإجازات خشية انتهاك "سرهم". وقدمت موظفة كردية سُنية طلب إجازة طويلة في أبريل الماضي بعد تلّقيها تهديدات بالقتل، وانتقلت فيما بعد مع أسرتها إلى خارج العراق. وكثير من أفراد أسر العاملين العراقيين غادروا البلاد منذ سنوات. وتخلى الآن موظفو السفارة عن حمل هواتفهم الخليوية الأميركية، لأنها تعرضهم للانكشاف، وبعضهم أخذ يسأل عن الضمانات في حال إجلاء السفارة. ويضاعف ذعرهم الدائم من انكشاف عملهم في السفارة الأميركية معاناتهم، كجميع العراقيين، من انقطاع التيار الكهربائي في عز الصيف ست ساعات مقابل ساعة عمل واحدة. وبعضهم يعيش في قلب بغداد، كمنطقة باب المعظم المحرومة من التيار الكهربائي منذ أكثر من شهر، في حين يتحدث موظف آخر عن صديق له يقيم في بناية يعيش فيها وزير جديد يؤمن لها التيار 24 ساعة في اليوم. وشكت موظفة شيعية في السفارة تميل إلى ارتداء الملابس الحديثة من أنها تتعرض للانتقاد من نساء في الحارة ينصحنها بارتداء الحجاب، وعدم سياقة سيارتها. ونقلت موظفة سُنية تحذير سائق التاكسي الذي يوصلها كل يوم إلى عملها في "المنطقة الخضراء" من أنه لن يستطيع السماح لها بركوب السيارة ما لم تغطِّ رأسها. ويفاقم الوضع النفسي لمستخدمي السفارة النقد العنيف ضد الأميركيين من أفراد أسرهم. ذكرت إحدى الموظفات أن أسرتها تعتقد بأن الأميركيين يملكون السيطرة المطلقة على العراق، ويسمحون بما يجري لمعاقبة العراقيين، على غرار ما كان يفعل صدام "والاختلاف الآن أن السُّنة وفقراء الشيعة يأتون في أدنى القائمة". وتضيف متسائلة "وإلاّ، كيف يمكن توزيع التيار الكهربائي وحماية الأمن بهذا الشكل العشوائي؟". وعبّرت السفارة عن خشيتها من تأثير ذلك على أجواء العمل داخلها، وذكرت أن الذعر قد يدفع موظفيها إلى المبالغة في تصوير الأوضاع، أو تزويد رؤسائهم بالأخبار التي توافق تصوراتهم، وحذرت من أن عناصر الموضوعية والمنطق، التي تشكل ركائز العمل الوظيفي قد تتهاوى، إذا لم يوضع حد لما تسميه "التوتر الاجتماعي في الخارج". إذا كان هذا هو الوضع في "عرين الأسد" الأميركي، فكيف هو في جوار "المنطقة الخضراء"؟ هنا كما في رسالة خليل زاد أكثر الوثائق رسمية أبلغها في التعبير عن الحال. وليس هناك أبلغ مما يسمى "مشروع المصالحة والحوار الوطني". زعماء طائفيون أقاموا سياساتهم وأحزابهم على قاعدة التفريق بين العراقيين، وتأليب الطوائف ضد بعضها بعضاً، يطالبون الآن بعدم التمييز بين المواطنين، "على أساس المذهبية والعرقية والحزبية السياسية"، ويدعون إلى "التلاحم بين أبناء الشعب العراقي وترسيخ الوحدة الوطنية وإشاعة أجواء المحبة والانسجام بين مكوناته المختلفة". الكلام العقلاني الذي كان يثير ردود أفعال هستيرية لدى المؤمنين بتحرير الدبابات الأميركية أصبح الآن أهم فقرات "مبادرة المصالحة والحوار الوطني". دعت المبادرة إلى الاستعانة بالأمم المتحدة والجامعة العربية، وطالبت بإعادة "بناء القوات المسلحة التابعة لوزارتي الدفاع والداخلية"، ومراجعة ما يُسمى "هيئة اجتثاث البعث"، بل استعادت حتى شعارات وطنية قديمة، مثل "بناء جبهة وطنية واسعة لمواجهة التحديات"، و"جعل القوات المسلحة غير خاضعة لنفوذ القوى السياسية المتنافسة". والسؤال هو: ما ضمانة تحقيق الوحدة الوطنية، إذا كان بين أبرز الموافقين عليها زعماء أحزاب طائفية يتصورون أنهم يتنازلون بها عن خطوطهم الحمراء الدينية أو المذهبية أو العرقية، أو ينوون الاتقاء بقبولها اللفظي عن فروضها العملية. الجواب عن هذا السؤال، وعن كل الأسئلة حول مستقبل العراق يقدمه العراقيون الذين حرّرهم الصراع المعقد الرهيب ضد الغزاة الأميركيين والبريطانيين ومواليهم مما كان يسميه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ جميع أنواع "الفكر العاجز الذي يبالغ في قوة وثراء العدو ويقلل من قوة الشعب". ولا يأس مع العراقيين، رواد العالم العربي والإسلامي في أروع مبادرات التحرر الثقافي والعلمي والسياسي والاقتصادي. لقد قدموا ضحايا خلال ثلاث سنوات من الاحتلال ما لم يقدموه عبر تاريخهم الطويل، وأشك في أنهم سيقبلون بأقل من الحرية الكاملة للوطن، والسعادة الشاملة للشعب. وفي اجتماع للمثقفين العراقيين المناهضين للاحتلال في لندن السبت الماضي استعاد المفكر السياسي العراقي الدكتور خير الدين حسيب تجربته في العيش في بيروت خلال 14 عاماً من الحرب الأهلية، وذكر أنها انتهت بإزالة الحواجز الفعلية والسياسية بين الأطراف المتصارعة. علماً بأن تاريخ لبنان لا يخلو من النزاعات الطائفية، في حين استُقدمت الطائفية إلى العراق من الخارج. ولم يتورط العراقيون الذين خبروا مختلف أنواع الصراعات السياسية العنيفة عبر تاريخهم الطويل، في صراعات مذهبية دموية أو حروب أهلية طائفية. ويكشف اختلاف الأديان والمذاهب في العراق أنها عوامل تفتك بمن يحاول استخدامها ضد الآخرين، لكنها تمثل متآلفةً كلمة سر الدولة العراقية، ومنبع غنى حضارات بلاد ما بين النهرين. وحسب اعتقادي فإن ضروب التعصب المذهبي والطائفي والقومي، قد تكون تعبيراً عن مصالح اجتماعية، أو اقتصادية، أو صراعات جيوبوليتيكية، إلاّ أنها على مستوى الذات الإنسانية تكشف عند النظر إلى العالم بعمق، عن شيء من الحكمة. فالغريزة التي تحافظ على بقاء الأفراد، حسب الفيلسوف الألماني نيتشة، "تعلمهم أن يصبحوا حمقى، وطائشين ومزيفين". ولعل في هذا بعض من حكمة "الله الغفور الرحيم"، التي يكرر القرآن الكريم تذكير البشر بها.