أخطر ما في حديث المصالحة العراقية أنه لا يزال في إطار الحكومة، ولم يخرج بعد إلى الشارع والمجتمع، بل لم ينعكس بعد على النقاش العام. يؤمل بأن يتغير هذا الواقع بعد إعلان رئيس الوزراء مشروعه للحوار الوطني، وليس معروفاً أين سيتقاطع هذا المشروع مع مبادرة الجامعة العربية لعقد مؤتمر مصالحة داخل العراق هذه المرة، استكمالاً للقاء الأول الذي تم في مقر الجامعة نفسها في القاهرة. يقول المتابعون إن هذين التحركين لا يتعارضان ولا يتناقضان، بل إن أحدهما لا ينفي الآخر أو يلغيه. فالمصالحة تتطلب مظلة عربية قد تؤمنها مبادرة الجامعة، كما أنها تنطوي على نواحٍ تفصيلية لابد أن تتولاها مبادرة نوري المالكي. وهناك رهان كبير على رئيس الوزراء كي يبدأ خصوصاً بإطلاق إجراءات جريئة تثبت حيادية الدولة ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، إلى أي طائفة أو مذهب انتموا. ولا يملك المالكي الكثير من الوقت، كما أن هامش المرونة والحركة الذي يتمتع به الآن مرشح لأن يضيق تدريجياً وبسرعة كلما اقترب من ضبط الميليشيات التي يفترض أنها تنتمي وإياه إلى الطرف نفسه. في المقابل سيكون محك مشروع المصالحة مدى تعاون الأطراف الشيعية فيه، ومدى تقدم الرئيس جلال طالباني في إقناع الجانب السُّني ولاسيما جناح المقاومة فيه بتعاون مماثل، كي يمكن التقدم بالمشروع وإنجاحه، بل ترجمة نجاحه ضمن العملية السياسية وعلى صعيد الوضع الأمني. قياساً إلى الواقع على الأرض، اليوم، لا شيء يدعو إلى التفاؤل، لكن التغيير ليس مستحيلاً. فمشروع المالكي لم يأت من عندياته ولا من رغباته الخاصة، وإنما جاء ثمرة نقاشات طويلة ساهم فيها السفيران الأميركي والبريطاني. وبالتالي فإما أن تكون حكومة المالكي حكومة المصالحة وإلا فإنها ستسقط، ليصار إلى تجريب سواها. وقد أصبحت المصالحة تعني للأميركيين والبريطانيين إمكان إبلاغ مواطنيهم بقرب عودة العدد الأكبر من الجنود وخلاصهم من المستنقع العراقي. كذلك تعني المصالحة إمكان وضع برنامج زمني للتطبيع الداخلي ولبداية مرحلة استقرار نسبي قبل ترسيخ هذا الاستقرار وتفعيله بتنشيط حملة لإعادة الإعمار وتحسين الخدمات العامة. أول ما يجب استبعاده والتخلص منه هو "الفيتوات" من هذا الجانب وذاك، فهي إذا بدأت لن تنتهي، وإذا أصرّت على إقصاءات هنا فإنها لن تتوصل إلى توافقات هناك. أصبح الواقع معروفاً لدى الجميع، ولابد أن كل طرف استطاع الآن التعرف إلى الحدود التي يمكن أن يذهب إليها، وأي جهد إضافي لن يعني سوى إدامة الفوضى وتغليب التخريب على الوئام والبناء. مع بدء تنفيذ مشروع المصالحة لابد من إقامة هدنة ملموسة لمواكبة الحوار، بمناخ أقل دموية إن لم يكن بلا أي سفك للدماء. إذ أن استمرار المجزرة اليومية المفتوحة، سيعني أن المصالحة ستقتصر بدورها على من هم داخل "المنطقة الخضراء" ولن تستطيع التوسع خارجها. ومن شأن ذلك أن يؤثر سلباً في مصير المصالحة، خصوصاً أن سباق التسلح لم يهدأ، وهو يؤشر إلى عدم الاعتماد فعلياً على هذه المصالحة كنهاية قريبة للصراع الداخلي الطائفي الدائر. لاشك أن الاتجاه إلى المصالحة يحتاج إلى مناخ ثقة، وهي حالياً معدومة. لذلك فإن الدخول إليها يستلزم تجاوز بعض العقبات أو ما يظن هذا الفريق وذاك أنه مكاسب يريد المحافظة عليها. فالمصالحة تكون لمصلحة الجميع، وبالأخص لمصلحة من يفترض أنه وطنهم، أو لا تكون، وعندئذ ستتحول إلى مقامرة بالوطن وعلى حساب الجميع.