يعي الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد جيداً ما يريده: الحصول على أسلحة الدمار الشامل وتقنيات تشغليها, قمع الحريات في الداخل, وكتم الأصوات والأفكار المعبرة عن آيديولوجيا ونظم الديمقراطية الليبرالية. وفي المقابل يدرك الرئيس بوش جيداً ما يريده هو الآخر: وضع حد نهائي لا رجعة فيه لبرنامج إيران النووي, نشر الديمقراطية على نطاق العالم بأسره, إلى جانب إحراز نصر حاسم في حربه الدائرة على الإرهاب. أما وزارة الخارجية الأميركية وشركاؤها الأوروبيون فيدركان هدفهما الوحيد المتمثل في الحوار مع الجانب الإيراني. لكن وعلى امتداد خمس سنوات واصلت الإدارة تلجلجها وترددها. فقد أطلق الرئيس بوش خطباً نارية, بينما أطلق الإيرانيون سهام وعيدهم وتهديدهم باتجاه واشنطن. غير أن الذي حدث في عام 2003, هو تسليم وزارة الخارجية الأميركية مفاتيح حل الأزمة الإيرانية لأطراف الاتحاد الأوروبي, التي تمثلها كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وقدمت هذه الأطراف الأوروبية الثلاثة مجتمعة, غطاءً دبلوماسياً واقياً لإدارة طالما تنازعتها التناقضات واللجلجة والعجز عن اتخاذ القرارات الحاسمة. ولما كان الرئيس بوش ولا أحد غيره, هو من أطلق تلك العبارة النارية المشتعلة: "ما من سبيل لوصول أسوأ أنواع أسلحة الدمار الشامل وأشدها فتكاً, لأسوأ الأيادي على الإطلاق". فكيف له أن يبلع كل ما قال, ويتراجع هذا التراجع المخزي المهين أمام طهران؟ ويدرك الرئيس بوش أن للإيرانيين يداً وراء تقويض جهودنا في العراق. كما يدرك أنهم يبذلون قصارى جهدهم من أجل الحيلولة دون أية بارقة أمل أو سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فهم يدعمون حركة "حماس" وأجندتها الخاصة بإزالة إسرائيل من خريطة الوجود. ومما يعلمه الرئيس علم اليقين أن إيران ظلت تمارس الغش والمراوغة وإخفاء برنامجها النووي عن العالم كله لبضع سنوات. ويعلم الرئيس مدى الوحشية التي تقمع بها الحريات داخل إيران. وليس كل هذا بجديد على بوش, لكونه عرفه وألمّ به منذ لحظة الكشف عن منشآت مثل "ناتانز" و"آراك" وغيرهما من المنشآت النووية الإيرانية السرية في عام 2003. ومنذ ذلك الوقت, كان في وسعنا إحالة الملف النووي الإيراني مباشرة إلى مجلس الأمن الدولي, ومطالبته باتخاذ إجراء فوري إزاءه. ولكن الذي حدث هو أنه لا أحد من خبراء وزارة الخارجية الأميركية, ولا من دبلوماسيينا وحلفائنا, أشار علينا باتخاذ موقف مواجهة حازم مع طهران. وكما دأب هؤلاء عادة, فقد كان من رأيهم أن من الأفضل "كسب الوقت", وإن كان هذا الوقت في واقع الأمر, دبلوماسياً من جانبهم هم, وعسكرياً لتسريع بناء الأسلحة النووية بالنسبة لطهران! لهذا وعلى إثر إعلان الرئيس بوش الشديد اللهجة عن أنه "لا يمكن قبول إيران النووية بأي حال", عاد ليبتلع ما قاله بمنحه الأوروبيين تفويضاً يخولهم التفاوض مع القادة الإيرانيين ومكافأتهم في حال وعدهم بإيقاف برنامجهم النووي. وخلال هذه السنوات الثلاث, قطعت إيران شوطاً حثيثاً ودؤوباً في طريق تطويرها للسلاح النووي. وفوق ذلك أعلنت بكل عناد أنها حققت إنجازاً كبيراً في هذا المنحى. ثم غض الرئيس بوش الطرف ثانية في أواخر شهر مايو المنصرم, عندما كرر الرئيس الإيراني نجاد مراراً "حق بلاده" في تخصيب اليورانيوم اللازم لتطوير الأسلحة النووية. وعلى عكس الرئيس بوش, فإن الإيرانيين لا يطرف لهم جفن, إنما يحدقون في عيون ووجوه خصومهم مباشرة, ويقولون ما يريدون قوله لهم. فما هما إلا أسبوعان فحسب, حتى أعلن فيهما أمين "مجلس تشخيص مصلحة النظام", عن "حدوث تطور في غاية من الأهمية" على حد قوله. ثم أوضح هذا التطور بعد ازدرائه ونعته لأميركا بأنها مجرد "نمر من ورق", مشيراً إلى أن واشنطن لم تعد تطالب بحرمان إيران من حقوقها النووية, مرة واحدة وإلى الأبد. ولذلك فقد خلص المتحدث إلى القول: لقد حققت إيران إنجازاً عظيماً بهذه الخطوة. وما هذا الإنجاز العظيم الذي وصفه المتحدث محسن رضائي, سوى إضعاف موقف أميركا وهيبتها الدولية. ومع ابتلاع الرئيس لكلماته وتصريحاته القوية الشجاعة, وعلى إثر العرض الذي تقدمت به كوندوليزا لإحلال "الترويكا" الأوروبية محل بلادها في التصدي لإيران, فقد كان طبيعياً أن يعلن الرئيس نجاد الأسبوع الماضي, حاجة بلاده لما لا يقل عن ثلاثة أشهر كي ترد على آخر عرض أوروبي قدم لها بشأن تسوية برنامجها النووي! والشاهد أنه لم تكن لأي من الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1979, استراتيجية سياسية جادة يعول عليها إزاء طهران. أما فشل هذه الإدارات جميعاً –بما فيها الإدارة الحالية- في توفير الدعم المعنوي والسياسي لمعارضي النظام الإيراني, فهو كارثة ومأساة بحق. فالمعلوم عن الشعب الإيراني أنه مجتمع شاب ويبدي معظمه شغفاً خاصاً بالديمقراطية الليبرالية التي يخشاها نجاد وأقرانه. فما أمسّ وأجدر حاجة الشعب الإيراني لدعمنا لأمانيه وتطلعاته. وليذكر الرئيس بوش أنه قال في خطابه الافتتاحي لدورته الرئاسية الثانية: "ليعلم كل الذين يقبعون تحت نير الاستبداد واليأس, أن الولايات المتحدة الأميركية لن تتجاهل قهركم, وأنها لن تغض الطرف عن قاهريكم". وكم كان وقع هذا التصريح عظيماً وباعثاً للأمل في نفوس الإيرانيين المتشوقين إلى الحرية والديمقراطية. وعلى رغم اعتراض وزارة الخارجية مؤخراً على مشروع قانون "دعم حرية إيران" الذي تقدم به إلى الكونجرس السيناتور "بك سانتورم", بحجة تعارضه مع الجهود الدبلوماسية التي تبذلها الوزارة لحل الأزمة الإيرانية, فإن الوقت لم يفت بعد كي يحفظ الرئيس كلمته ووعده, وكي تسترد أميركا هيبتها ومكانتها الممرغة في وحل الإهانات الإيرانية. ريتشارد بيرل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مساعد سابق لوزير الدفاع الأميركي ورئيس "مجلس سياسات الدفاع" خلال الفترة من 2001-2003 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"