كتبت الروائية والناقدة ماري ماكارثي مرة تقول إن البيروقراطية هي "قاعدة لا أحد". والواقع أن برقرطة المشروع الأوروبي غدت أهم عقبة أمام نجاحه اليوم، ذلك أن طبيعة البيروقراطيات هي النهل من الأفكار الجاهزة التي تنتمي إلى الماضي، والتي تتشبث بها المنظمات والتجارب المهنية، والدفاع عن تلك الأفكار عندما يتم انتقادها أو الانتقاص من شأنها، لأن الأفكار الجديدة خطيرة وكثيراً ما تتسبب في المشاكل، وإن لم يكن دائماً، ذلك أنه يمكنها أيضاً حل المشاكل. لقد ظلت المفوضية الأوروبية منذ أن رفض الناخبون الفرنسيون والهولنديون العام الماضي مشروع الدستور الأوروبي (ويذكر أن أحد أسباب الرفض هو علاقة مشروع الدستور بتوسيع الاتحاد) مسكونة بفكرة مشروع الدستور والالتزام بتوسيع الاتحاد الأوروبي، وبدت مصممة للتحايل على الناخبين وإثبات أنهم على خطأ. وقد أعاد خوسيه مانويل باروسو، رئيس المفوضية، التأكيد عشية مؤتمر قمة الاتحاد الأوروبي الأسبوع المنصرم على دعم المفوضية وتأييدها لـ"مبادئ اتفاقية الدستور وقيمها وجوهرها". والواقع أنه يبدو ألا طائل من هذا الالتزام بالنظر إلى أن الجمهور في اثنتين من أهم الدول الأعضاء التي ساهمت في تأسيس الاتحاد الأوروبي صوت ضد "جوهر" الدستور المقترح، حتى لا نقول ضد مبادئه وقيمه. سيبدو واضحاً بالنسبة للمراقب غير الأوروبي أن توسيع الاتحاد هو مصدر الصعوبات التي تعترض المفوضية حالياً، وأن تفكيراً جدياً حول إصلاح هياكل الاتحاد الأوروبي بات ضرورياً، ذلك أنه سيكون محكوماً على التوسيع المتواصل الاصطدام بحائط الواقع إذا ما ظلت هياكل الاتحاد وطموحاته على حالها؛ فزيادة عدد أعضاء الاتحاد الأوروبي بشكل أوتوماتيكي تزيد العراقيل التي تواجه أجهزة صنع القرار الأوروبية، وتقلص سلطة الدول الأعضاء ونفوذها. كما أن حجم وعدد المصالح التي ينبغي مراعاتها يزداد بعد كل عملية توسيع. ونتيجة لذلك، فإن أوروبا في شكلها الحالي -بـ25 دولة عضواً- هي أضعف كثيراً من أوروبا حينما كانت لا تتعدى 15 دولة عضواً قبل الأول من مايو 2004. وعليه، فإذا ما استمرت أوروبا على هذا النهج، فإن النتيجة النهائية لهذا التوسيع ستكون اتحاداً أوروبياً غير قادر على اتخاذ أية قرارات بالمرة. كان يفترض أن تنتبه اتفاقية الدستور لهذا الأمر وتصلح مكامن الخلل عن طريق العمل بالأغلبية المحدودة وإعادة توزيع السلطات التنفيذية، غير أنه يبدو أن المشكلة غير قابلة للحل عن طريق الإصلاح التنظيمي، ذلك أن أي اتحاد حقيقي يكون ضعيفاً حينما توجد خلافات بين أعضائه. لقد تطلب الأمر حرباً أهلية استمرت أربع سنوات قبل أن يتم "حل" هذه المشكلة في الولايات المتحدة، حيث تعارضت قيم الولايات الشمالية ومصالحها مع مصالح نظيراتها الجنوبية منذ البداية، مع اقتناع الجنوبيين بأن ولاياتهم ستظل في نهاية المطاف محافظة على سيادتها في إطار الاتحاد الأميركي. غير أن أبراهام لينكولن والجنرال "يوليسيس إيس. غرانت" والجيش الاتحادي أثبتوا أنها لم تكن كذلك. وقد قسمت أيضاً أحدث عملية توسيع للاتحاد الأوروبي، والتي ارتفع بموجبها عدد أعضائه إلى 25 دولة، الاتحاد، حيث يعد التزام بعض الأعضاء الجدد محدوداً بالعضوية. وبغض النظر عن المنح المالية التي يرصدها الاتحاد الأوروبي للتنمية الزراعية والتنموية والدعم الكبير الذي يواصل تقديمه من أجل عصرنة هياكل الدول وتطوير البنى التحتية، لا يرى البعض إيجابيات كثيرة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بالنظر إلى العبء الذي ينبغي تحمله ومطالب الأعضاء القدامى بإصلاح الطرق التي يتصرف وفقها الأعضاء الجدد. ولعل خير مثال على ذلك بولندا في ظل حكومتها الحالية التي تضم يميناً دينياً شعبوياً ورجعياً ينظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه يشكل تهديداً للاستقلال القومي والقيم الثقافية، حيث بدأ التساؤل، كما كتب مؤخراً جاك روبنيك الذي يعد أحد أكثر العارفين بشؤون المنطقة، بخصوص التوافق الذي تم التوصل إليه بعد المرحلة الشيوعية. لقد تم بناء بولندا ما بعد 1989 عن طريق التعاون الواعي بين المعتدلين الشيوعيين ومنشقين من حركة "التضامن" الناجحين. وفي هذا السياق، يقول روبنيك: "إننا ندخل الآن إلى مرحلة إعادة الترتيب السياسي عندما يتم استغلال قضايا من الماضي الشيوعي". يرتبط الانقسام الجديد في الاتحاد الأوروبي بالدور الأميركي في أوروبا باعتباره راعياً لـ"أوروبا الجديدة"، حسب تعبير دونالد رامسفيلد، مقابل نواة الاتحاد الأوروبي القديمة. وتثمن دول "ميثاق وارسو" السابقة الروابط السياسية الغربية باعتبارها ضمانة للأمن، حيث تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها ضامن قوي يمكن الاعتماد عليه مقارنة مع فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا. وهو أمر معقول طالما لا يخلق الشقاق والفرقة بين جزئي أوروبا، غير أنه يتعين على الأوروبيين "الجدد" أن يدركوا أن الولايات المتحدة ستعود في نهاية المطاف إلى بيتها. وبالتالي، فيجدر بهم ألا يجدوا أنفسهم منعزلين مرة أخرى عن القوى الأوروبية الكبرى. ومما لاشك فيه أن ثمة أسباباً وجيهة للدفاع عن توسيع الاتحاد الحالي والمستقبلي، غير أن ثمة أيضاً أسباباً لا تقل وجاهة لضرورة اعتماد وقفة في المشروع الأوروبي، كما تم الاتفاق على ذلك خلال مؤتمر القمة الأوروبي الذي اختتم الأسبوع الماضي. والحق أنه كذلك لابد من "وقفة" للتفكير، فوضع أوروبا الحالي يدعو إلى ضرورة أخذ الانقسام الذي يوجد على أرض الواقع في عين الاعتبار ضمن بنية أوروبية جديدة، تكون فيها الدول التي ترغب في أن تلعب "أوروبا" دوراً نشطاً على الساحة الدولية، حرة في إنشاء "ائتلاف" خاص بها لا يلزم بشكل أوتوماتيكي بقية أعضاء الاتحاد الأوروبي. أما الآخرون، فيمكنهم الاستفادة من المزايا الاقتصادية وبعض المزايا السياسية التي توفرها العضوية، مع الاحتفاظ بحق الامتناع عن المشاركة في الالتزامات. الحقيقة أنه سيكون من الصعب تطوير ذلك عملياً، غير أن الجهد سيكون أفيد من الجهود البيروقراطية الحالية التي تروم إعادة بلورة مقترح دستوري تم رفضه من قبل. وهو ما يعني سير أوروبا بـ"سرعتين". أما في حال وجود "أوروبتين"، فأمر طبيعي أن تسيرا معاً بسرعتين مختلفتين! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "خدمة تريبيون ميديا سيرفيس"