تقترب الذكرى السابعة عشرة لانقلاب الثلاثين من يونيو العسكري، الذي دبره ونفذه حزب "الجبهة القومية الإسلامية" بقيادة حسن الترابي الرئيس المؤسس لذلك الحزب آنذاك. ولقد أصبحت "أسرار" هذا الانقلاب في معظمها معروفة ومتداولة بين الناس. ويعود الفضل في ذلك لـ"الشيخ" الذي تغلب عليه حواريوه، فقرر أن يرد لهم الصاع صاعين بكشف خباياهم ليس حباً في النقد الذاتي ولا إدانة لأسلوب الانقلاب العسكري من حيث المبدأ، ولكن كيداً لتلاميذ يعتقد أنهم غدروا به وخانوا عهده معهم. وبعيداً عن الحكايات والروايات المضحكة- المبكية، التي أحاطت بانقلاب "الجبهة" في يونيو عام 1989، هناك أسئلة جادة سيجد أهل "الجبهة" أنفسهم مواجهين بها كحزب سياسي، ليس أمام المستقبل -الذي لابد أن يأتي يوماً- ولكن أمام الحاضر الراهن. وتلك المواجهة السياسية الجادة لن تكون بينهم وبين القوى السياسية المعارضة لهم فحسب، ولكنها ستكون أيضاً وأولاً بين القيادة التي دبرت ونفذت الانقلاب وحكمت السودان، وبين أعضاء حزبها الذين التزموا طريق الحزب عن إيمان بأنه طريق للخدمة العامة للوطن وللإسلام، وفقاً لمبادئ ومواثيق أعلنوها وطرحوها للشعب السوداني إبان العهد الديمقراطي الذي لم ينكر عليهم حقهم المشروع في التنافس الديمقراطي السلمي، ولم يحاكمهم على نواياهم المضمرة، بل منحتهم قطاعات لا يستهان بها من المواطنين، أصواتها الانتخابية، وجعلت منهم "الحزب الثالث" في البرلمان الديمقراطي (نال حزب الجبهة في آخر انتخابات ديمقراطية 11% من أصوات الناخبين)! فإذا سأل سائل اليوم قيادة "الجبهة القومية الإسلامية" التي كانت ممسكة بزمام الأمور -وما يزال بعضها- في الثلاثين من يونيو عام 1989: ماذا حققت وأنجزت من برامجها المعلنة للناس من قبل وبعد ليلة الانقلاب؟ ترى بماذا ستجيب تلك القيادة؟ بعض المتلاعبين في الملعب السياسي السوداني يتصورون ويصورون حزب "الجبهة الإسلامية" -اقرأ المؤتمر الوطني- المؤتمر الشعبي- على أنه قمة النجاح الحزبي السياسي، وأنه من دون الأحزاب السودانية جميعها، هو الذي خلق كياناً حزبياً منظماً وبنى مؤسسات سياسية قمة في التماسك والقوة. مثل هذه النظرة القاصرة التي تقيس نجاح الحزب السياسي بقدرته على الإمساك بمقاليد السلطة واستخدامها -لا تتورع عن القول استطراداً بأي ثمن- هي نظرة تنبع من موقف انتهازي لا يفرق بين العصابات الإجرامية المنظمة وبين الأحزاب السياسية الملتزمة خدمة الوطن والشعب وفق رؤية اعتقادية محددة ومعلنة في برامج ومواثيق سياسية واقتصادية واجتماعية. إن نجاح الأحزاب السياسية وفلاحها عندما تصل إلى السلطة (ومن المهم كيف وصلت إلى السلطة)، يُقاس بما حققته من إنجازات وفقاً لبرامجها وأهدافها التي يحاكمها عليها جمهور الناخبين، ويحدد درجة نجاحها أو فشلها، في هذا المضمار ماذا حققت "الجبهة القومية الإسلامية" بأسمائها المتعددة من برامجها المعلنة؟ الناظر اليوم بالبصر وليس بالبصيرة، في صورة الخرطوم قد تبهره أساسات العمارات الشاهقة والجسور المشيدة وبعض الطرق المسفلتة والبقالات الممتلئة الأرفف بالمعلبات المستوردة، ولكن ماذا يكمن وراء تلك الصورة المزوقة البراقة؟ والقارئ لصفحات وثائق اتفاقيات السلام وما تلاها، قد يقول حسناً، ها هو السلام قد تحقق في جنوب البلاد، ولكن ماذا جلب السلام لعامة السودانيين وبخاصة أهل الجنوب؟ هل انخفضت نسبة الفقر الخرافية التي وضعت السودان على رأس أفقر بعض بلدان العالم؟ هل امتدت الرعاية الصحية -حتى الصورية- من الخرطوم إلى مريدي وزالنجي والمجلد والقولد وسنكات وقيسان والدلنج؟ مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير التي تحاول السلطة تجاوز الإجابة عليها بالضجيج السياسي الفارغ، سترتفع "أصوات العامة" مرددة صداها مطالبة بإجابات جادة عليها. وما أحسب أن السلطة الحالية قادرة عليها.