ظل الصومال ينزف منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. تفككت دولته إلى شمال نشأ فيه كيان لا يعترف به أحد، وجنوب مزقه أمراء الحرب أشلاءً تخضع لنفوذهم تحقيقاً لمصالحهم ومصالح من يحركونهم. تعددت محاولات إعادة بناء الدولة الصومالية لكنها تحطمت على جدارٍ سميك شيده أصحاب المصلحة في بقاء الصومال على حاله سواء كان هؤلاء من أمراء الحرب أم دول جوار للصومال سرَّها تمزقه كثيراً علَّها تكمل التهامه، وإهمال الظهير العربي للصومال الذي ما انفك يطالب بتدخله دون جدوى، فقد بدا النظام العربي –انعكاساً لأزمته العامة- راضياً بأن يبقى ملف الصومال في أيادٍ أفريقية ليست كلها بطبيعة الحال مبرأةً من هوى مصالحها المناقضة للمصلحة الصومالية، ومتقبلاً لاستباحة الساحة الصومالية من قِبَل قوىً دولية عديدة على رأسها الولايات المتحدة التي كان آخر تجليات سياستها تجاه الصومال هو رعاية تحالف لأمراء الحرب بدعوى محاربة الإرهاب، والذي لم يكن سوى طلقة طائشة جديدة للسياسة الأميركية المتخبطة في معظم أنحاء العالم. في هذه الظروف اختار الصومال أن يوجه رسالة مهمة إلى محيطه الخارجي: تقدمت قوات المحاكم الإسلامية لتفرض سيطرتها على العاصمة وصولاً إلى السيطرة على معظم جنوب البلاد في عملية أشبه ما تكون بإعادة تأسيس الدولة الصومالية على نحو يذكّرنا بما كنا ندرسه في سنوات الدراسة الجامعية الأولى عن "نظريات نشأة الدولة" بالقوة أو استناداً إلى أساس ديني أو عن طريق عقد اجتماعي بين الشعب وحكامه، وكلها مقومات واردة في حالتنا، فنحن إزاء قوة استطاعت أن تحدث تغيراً ملموساً في ميزان القوى السياسي في الصومال بعد أن أنزلت هزيمة ساحقة بأمراء الحرب اضطرتهم إلى الفرار أو التوبة. وهذه القوة تتبنى توجهات تجعل من "الإسلام" وفق فهمها له أساس الدولة الجديدة إن اكتمل بناؤها، ومن الواضح أن هذه القوة تحظى بمساندة شعبية، أو على أسوأ الفروض لا تواجه معارضة شعبية مؤثرة في المناطق التي اجتاحتها، وليس هذا بالضرورة نتيجة تأييدٍ طاغٍ لها، وإنما قد يكون انعكاساً لمعاناة الشعب الصومالي طيلة ما يزيد على الخمسة عشر عاماً، ويأسه من تهافت الصيغ التي قدمت للخروج من مأزقه الممتد، ولذا فإن قوة المحاكم الإسلامية والخطوات السريعة التي اتخذتها كرفع الحواجز التي طال بقاؤها بين مدن الصومال، وإعلان نيتها تحقيق الأمن في المناطق الخاضعة لسيطرتها يفضي إلى وضع يشبه ما تصوره مفكرو العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين قبل نشأة الدولة، والذي بموجبه يمنح هؤلاء الشرعية لحكامهم مقابل قيامهم بوظائف محددة متفق عليها بين الطرفين. على أن ما جرى في الصومال –وإن لم تكتمل قصته بعد- لا يخصه وحده، ذلك أن التطورات التي شهدها مؤخراً تأتي في سياق نموذج عام آخذ في التبلور بالتدريج في المنطقة، ووفقاً لهذا النموذج فإن بلدان المنطقة تواجه بدرجات متفاوتة تحديات جساماً، بعضها يخص إخفاق جهود التنمية، والبعض الآخر يتصل باتساع الهوة بين الطبقات، والبعض الثالث يتعلق بتدهور الأمن وتهديد وجود الدولة ذاتها، وبعض رابع مرده تفاقم التفكك المجتمعي، وبعض أخير يرتبط بغياب الاستقلال الوطني أصلاً. في مواجهة هذه التحديات بدا واضحاً أن الصيغ الراهنة للحكم في عديد من بلدان المنطقة قد أظهرت عجزاً فادحاً، وبدلاً من تطوير الأداء إلى الأفضل وقع التركيز على مواجهة قوى المعارضة التي تقدم رؤى بديلة، وتفردت قوى المعارضة "الإسلامية" بالذات بحضور أكبر في هذا السياق كما اتضح من صعود نجمها في الانتخابات التشريعية المصرية لعام 2005، وفوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في مطلع 2006، بالإضافة إلى حضورها السابق في عدد من البلدان مثل السودان والجزائر والأردن واليمن والكويت والمغرب. في هذا الإطار تضيف أحداث الصومال مثالاً جديداً له دلالته بالنسبة للنموذج العام للتطور السياسي في المنطقة. من الطبيعي أن يثير هذا النموذج القلق إقليمياً ودولياً: أولاً لأنه يشير إلى وافد جديد في الساحة السياسية في المنطقة لم تسبق له ممارسة الحكم على نطاق واسع، وغير معروفة اتجاهاته على وجه الدقة، والتصور المعتاد أن هذه الاتجاهات معادية للمصالح الأميركية على الأقل بسبب التوجهات "الراديكالية" لقوى التيار "الإسلامي" في المنطقة، والصورة النمطية السائدة لدى الإدارة الأميركية عن هذه القوى خاصة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. في هذا السياق بدأ الحديث عن التدخل الدولي في الصومال، والذي يُفترض فيه أن يحقق مصلحتين: الأولى مصلحة القوى الداخلية العاجزة التي لم تفعل شيئاً ويسوؤها أن يفعل غيرها، وهي مستعدة لإعلان تبعيتها للخارج من أجل احتفاظها بمصالحها، والثانية مصلحة القوة العظمى التي تتحسب لسيطرة قوة كالمحاكم الإسلامية على مقاليد الأمور في الصومال. هكذا سارعت "الحكومة الانتقالية في الصومال" -والتي لم تفعل شيئاً لشعبها منذ تكونت حتى الآن- باتخاذ قرار عبر "البرلمان" بالموافقة على استدعاء قوات أجنبية، بل إن هذه الحكومة لم تجد لدى نظيراتها في العديد من البلدان العربية ما تحاكيه سوى تنظيم مظاهرات مفتعلة على نحو مخجل بحثاً عن شرعية زائفة لقرار مهين، ولا يدري المرء أيضحك أم يبكي حين يرى عشرات من أبناء الصومال يحملون لافتات كُتبت لهم في تحبيذ التدخل الدولي تتصدرهم فرقة موسيقية تعزف لحناً سخيفاً تتردد أصداؤه في سماء المنطقة مع كل دعوة لتدخل دولي جديد. لن ينجح التدخل الدولي في الصومال -إن وقع- قياساً على سوابق عديدة آخرها سابقتا أفغانستان والعراق، وأشك في أن يقدم الرئيس الأميركي على مغامرة جديدة بينما يتسع الخرق عليه في العراق وأفغانستان معاً، ناهيك عما يواجهه من تحديات أخرى في أميركا اللاتينية وآسيا، وإن كان التدخل تحت ستار الأمم المتحدة أو أي قوة تعمل لحساب الولايات المتحدة وارداً، وهو إن تم سيطيل أمد المأساة الصومالية دون أن يحقق أهدافه، كما حدث بالنسبة للتدخل العسكري الأميركي الفاشل في الصومال نفسها في بداية الحرب الأهلية. والأمل معقود على المحاكم الإسلامية في أن تتبنى برنامجاً وطنياً يعبر عن توق الشعب الصومالي إلى إعادة تأسيس دولته واستعادة أمنه ورخائه، وعلى باقي القوى المخلصة في الصومال أن تنفض عن نفسها غبار العجز كي تتمكن من المشاركة في بناء الصومال الجديد، وعلى القوى الدولية أن تفهم طبيعة الرسالة الصومالية وأن تمتنع عن التدخل فيما يجري حفاظاً على مصالحها. أما النظام العربي الرسمي فمن الصعب على المرء أن يتصور أنه يمكن أن يبادر الآن بما كان يتعين عليه أن يبادر به منذ خمسة عشر عاماً على الأقل مع أن أحداث الصومال تعنيه أكثر من غيره لأنها إن أفضت إلى نموذج "إسلامي" مستقر في حكم الصومال سوف تضيف مزيداً من التآكل لفكرة النظام العربي نفسه.