تظهر الخرائط المبسوطة على مكتب "بيسانو رينماهاسارن"، المسؤول السامي عن التجارة بتايلاند، جزءاً بالغ الأهمية من مستقبل جنوب شرق آسيا. يتعلق الأمر هنا بطريق سريع يرتقب أن يفوق طوله عند افتتاحه العام المقبل 1000 ميل، ويربط "كانمينغ"، الواقعة جنوب غرب الصين بموانئ جنوب تايلاند مروراً بلاوس. ويندرج هذا الطريق في إطار شبكة من المنتظر أن تدعم ارتباط الصين بجنوب شرق آسيا، لتعيد بذلك إحياء واحد من الطرق التجارية القديمة وتساهم في خلق إحساس بـ"القدر الإقليمي المشترك". ووسط صوت الحروب والمعارك في الشرق الأوسط، والصراع الراهن بدارفور، والخطاب المعادي للولايات المتحدة في كل مكان، من السهل ألا نسمع الصوت المنبعث من جنوب شرق آسيا. ولكن اسمعوا: إنه صوت الصين وهي تعمل في صمت على انتزاع مكانة لنفسها في منطقة كان فيها نفوذ الولايات المتحدة قوياً بالأمس القريب. فمنذ أن انتهت آخر حرب خاضتها الولايات المتحدة في آسيا بسقوط سايغون عام 1975، أشرفت الولايات المتحدة على أمن المنطقة بفضل الاتفاقات التي وقعت زمن الحرب الباردة مع خمس دول بالمنطقة هي اليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند والفلبين وأستراليا. وإضافة إلى ذلك، يوجد اليوم خمسة من شركاء الولايات المتحدة التجاريين العشرة الأوائل في آسيا. وبالتالي فالحضور الأميركي واضح وبارز. غير أن قوة بكين الاقتصادية ما فتئت تكبر وتزداد، ومعها نفوذها السياسي. وإذا كانت بكين لم تطلب الكثير حتى الآن من جيرانها، فإن ذلك لا يمنع من التساؤل: ماذا ستريده الصين من المنطقة عندما تستكمل تحولها الاقتصادي وتقوي سلطتها وتشعر بالثقة الكافية لطلب المزيد؟ الحقيقة أن التغيرات التي يجري اعتمادها حالياً في آسيا لا تتصدر عناوين الصحف، كما أنه لا يجري الإعلان عنها بالقنابل والمتفجرات. غير أنها تعيد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة على نحو يجهله الأميركيون. صحيح أن حجم تجارة الصين مع جنوب شرق آسيا بلغ العام الماضي 130 مليار دولار، أي أقل من حجم تجارتها مع الولايات المتحدة التي بلغت 148 مليار دولار، ولكن ليس لفترة طويلة. ففي العام الماضي مثلاً، ارتفعت التجارة الصينية بـ20 في المئة –أي بأكثر من المعدل الأميركي بمرتين– ويتفق جل المراقبين على أن هذه الوتيرة ستواصل ارتفاعها بثبات. تعد السياسة في هذه المنطقة من العالم جزءاً لا يتجزأ من الحسابات الجيوسياسية، حيث تشير استطلاعات الرأي في آسيا إلى أن الصين باتت تتمتع بصورة أفضل من الولايات المتحدة. بل إنه حتى في أستراليا، التي تعد من أقرب حلفاء الولايات المتحدة، كشف استطلاع للرأي أجراه معهد "لاوي" العام الماضي أن عدد الأستراليين الذين يعتبرون أن سياسات الولايات المتحدة تشكل خطراً ممكناً هو ضعف عدد من يرون أن صعود الصين يشكل تهديداً. رسمياً، لم يُطلب من أي عاصمة آسيوية أن تختار بين واشنطن وبكين، ذلك أنه بالنظر إلى هموم وانشغالات كل طرف –الصين منشغلة بنموها المرتفع والولايات المتحدة بحربها الشاملة على الإرهاب- فإنهما لا ترغبان في المواجهة. غير أن النفوذ الصيني يمكنه أن ينحي القوة الأميركية جانباً بشكل تلقائي أكثر منه بالتخطيط. ولعل خير مثال على ذلك علاقات الصين بتايلاند، حيث قفزت صادرات تايلاند إلى الصين بمقدار الثلث العام الماضي. كما أن العلاقات السياسية التي تعرف عودة الدفء إليها تضمن لبكين مكانة في مستقبل بانكوك أفضل بكثير مما يدركه الكثيرون في واشنطن. أكيد أن الولايات المتحدة مازالت تمثل أكبر سوق صادرات بالنسبة لتايلاند وحليفاً لواشنطن، غير أن العلاقات الصينية -التايلاندية تنمو بسرعة كبيرة. والصورة مشابهة في الفلبين، التي تعد حليفاً آخر للولايات المتحدة، حيث تم مؤخراً تدشين متحف جديد يخلد الموروث الثقافي الصيني- الفلبيني وسط العاصمة مانيلا. كما تعرف صادرات الفلبين إلى الصين نمواً مطرداً بمعدل سنوي يتراوح ما بين 50 و60 في المئة. وعلاوة على ذلك، يرتقب أن تضمن سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والثقافية والسياسية للصين دوراً أكبر في بلد يصارع من أجل تجاوز الأزمات الاقتصادية وسط اقتصاد عالمي يتميز بالتنافسية المتزايدة. وفي أستراليا ارتفعت التجارة مع الصين إلى درجة أن المنتقدين وصفوا التخفيض الضريبي للعام الماضي بـ"التخفيض الضريبي الصيني". وتندرج في إطار نمو المبادلات الثنائية كذلك الصفقةُ الكبرى التي أبرمت في أبريل الماضي والتي تزود بموجبها أستراليا مصانع الطاقة النووية الصينية باليورانيوم، إضافة إلى عقد تبلغ قيمته 25 مليار دولار لبيع الصين الغاز الطبيعي المسال. وفي كوريا الجنوبية، نحّت الصين الولايات المتحدة جانباً باعتبارها الشريك الاقتصادي الأكبر. أما سياسياً، فتبدي سيئول ارتياحاً أكبر إزاء مقاربة الصين المتسمة بالاعتدال لنزع فتيل الأزمة النووية لكوريا الشمالية مقارنة مع نهج إدارة بوش الأكثر تشدداً. والحقيقة أن رسالة بكين الدبلوماسية إلى آسيا مطمئنة وبسيطة، ومفادها "لنغتنِ سوية!". ذلك أن تحديث الصين لن ينجح إلا إذا عم الرخاء جيرانها أيضاً. والواقع أن حملة المغازلة الدبلوماسية التي تقوم بها بكين ترتكز في المقام الأول على ازدياد الشعور بالفخر والثقة في أوساط الجالية الصينية بالخارج. ذلك أن الصينيين في جنوب شرق آسيا المقدر عددهم بنحو 30 مليون نسمة طالما عانوا التمييز وأعمال العنف، وكان من نتائج ذلك أن عاشوا على الهامش لفترة طويلة. أما اليوم، فإنهم يفتخرون بموروثهم الثقافي ويحتفلون به، وكثيراً ما تجدهم وراء الطفرة التجارية الحالية مع الصين. وتحب بكين تسليط الضوء على هذا الارتباط. وفي هذا الإطار، زار رئيس الوزراء التايلاندي "تاكسين شيناواترا" والرئيسة الفلبينية السابقة "كورازين أكينو"، اللذين لا يخفيان أصولهما الصينية، الأماكن التي ينحدران منها خلال زيارات رسمية إلى الصين. يذكر أن ما بين 60 و80 في المئة من أعضاء البرلمان في تايلاند يُعتقد أنهم ينحدرون من أصول صينية، على غرار رؤساء الوزراء الثلاثة الأخيرين. لا تشير الصين إلى حقوق الإنسان ولا تطالب بأكثر من الاستقرار والتجارة المفتوحة ودعم مطالبتها بتايوان. وقد علَّمنا التاريخ أنه عندما تشعر الدول القوية بالأمن والثقة، فغالباً ما تصبح أكثر جرأة وشجاعة وتسعى إلى تغيير قواعد النظام العالمي لصالحها. وبالتالي، ففي حال أصبحت الصين بعد تحولها التاريخي أول لاعب اقتصادي وسياسي في آسيا، فمن المؤكد أنها سترغب في استعمال وزنها السياسي الإضافي لزيادة مكتسباتها ومصالحها. ولكن هل تذهب مثلاً إلى حد مواصلة المطالبة بطريقة أكثر شدة بالجزر المتنازع عليها جنوب وشرق بحر الصين؟ الواقع أنه في حال تعارضت تلك المصالح مع مصالحنا، فإن أميركا ستجد خياراتها محدودة للغاية بعد تراجع دورها في المنطقة. ـــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"