إن التكوين الهيكلي لسوق العمل المحلية، المختلّة في جميع أركانها وجوانبها المتعدّدة، يشكّل واحدة من أكثر القضايا تعقيداً وتشابكاً في الإطار التنموي لدولة الإمارات على المستويين الاتحادي والمحلي. فتدنّي المستوى التعليمي لقوة العمل في مجملها، واختلال التخصّصات التعليمية مقارنة مع متطلّبات سوق العمل، وهيمنة العمالة الوافدة غير الماهرة على قطاعات اقتصادية متعدّدة، والتوزيع القطاعي المختل لقوة العمل المواطنة، تشكّل جميعها معوّقات أساسية تعرقل أي سياسات وبرامج هادفة للتوطين في الدولة. إن قرار وزارة العمل الأخير الذي يستهدف توطين مهن معيّنة لها مواصفات خاصة تلبّي طموحات وتطلّعات المواطنين، هي خطوة واحدة ولكنها كبيرة وذكية في الاتجاه الصحيح، إذ إن الوزارة يمكنها من خلال التنفيذ الصحيح لاستراتيجية "التوطين الانتقائي" هذه أن تتجاوز العديد من العقبات التي ظلت تحول بين المواطنين والعمل في القطاع الخاص طوال العقود الماضية، كما يمكن للوزارة من خلال هذه الاستراتيجية أن تدحض حجج ومبررات أرباب القطاع الخاص في عدم توظيف الكوادر المواطنة، وأهم من ذلك كله فإن هذه الاستراتيجية يمكن أن تعمل على إعادة توزيع قوة العمل المواطنة بشكل يضمن وجودها المؤثر والمتوازن في جميع القطاعات والمرافق، خاصة الاستراتيجية والأمنية والمالية منها. إن الإشكالية التي تطرحها القراءة التحليلية للإحصاءات الرسمية خلال العقود الثلاثة الماضية، ليست فقط في تمركز قوة العمل المواطنة في قطاع أو مهنة دون غيرها، والاعتماد شبه المطلق على العمالة الوافدة في المهن والقطاعات الأخرى، وإنما أيضاً في السياق التاريخي للاعتماد المتزايد على العمالة الوافدة، والانحسار النسبي المتواصل للعمالة المواطنة. كما أن هذا الانحسار في بعض القطاعات لم يكن نتيجة انخفاض النشاط الاقتصادي، حيث شهدت هذه القطاعات نفسها ارتفاعاً في الطلب على العمالة الوافدة، خلال الفترة ذاتها التي شهدت انحسار العمالة المواطنة. بل وخلافاً لما يعتقد البعض، فإن الفوارق الواضحة في الأجور وظروف العمل، لم تكن وحدها مبرراً لضعف مشاركة العمالة المواطنة في العديد من القطاعات والمواقع المهمّة. وهذا ما تؤكده الإحصاءات التي كشفت عنها دراسة أجرتها هيئة تنمية وتوظيف الموارد البشرية "تنمية"، مؤخراً، بشأن انخفاض نسبة التوطين في الوزارات والمؤسسات الحكومية إلى 7.4% العام الماضي مقارنة بنحو 8.4% عام 2004، ما أضفى مزيداً من التعقيد على برامج وسياسات التوطين في سوق عمل تعاني بنيته الهيكلية خللاً كبيراً ومتشعباً، يتطلّب معالجات تتجاوز حدود واختصاصات جهة حكومية بعينها. إن تعديل هذا الخلل، من خلال إعادة النظر في بنية ومحدّدات المشاركة القطاعية لقوة العمل المواطنة، لابدّ من أن يكون في مقدّمة أولويات استراتيجية "التوطين الانتقائي"، وإلا سيكون لمثل هذه الاستراتيجية مصير مشابه لما تمخّضت عنه سياسة المحاصصة المتّبعة في بعض القطاعات طوال السنوات الثماني الماضية، وهي وإن حققت نتائج نسبية محدودة في القطاع المصرفي تحديداً، فقد أضافت بعداً جديداً إلى الخلل الذي تعانيه سوق العمل أصلاً. إن نجاح وزارة العمل في تحديد أبعاد ومضامين هذه "الانتقائية" في التوطين هي الخطوة الأولى في نجاح هذه الاستراتيجية من أساسها، ولكنها ليست بالمهمّة السهلة، بل تتطلّب صياغة دقيقة وشاملة تضمن "انتقائية" متدرجة تستند إلى بيانات دقيقة رباعية الأبعاد تتحدّد في إطارها نسب وأوزان التوزيع القطاعي والمؤسساتي والمهني، الذي يتفق في مجمله مع مؤهلات العمالة المواطنة المراد توطينها من خلال هذه الاستراتيجية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية