مع اقتراب المحادثات حول مشكلة إقليم دارفور السوداني من نهايتها, شرعت الولايات المتحدة الأميركية في تحديد الحل الممكن لها. ولذلك فقد غادر روبرت زوليك نائب وزيرة الخارجية الأميركية إلى مدينة أبوجا النيجرية– حيث كانت تجري المحادثات- في الثاني من شهر مايو المنصرم. وبعد ذلك بثلاثة أيام فحسب, جرى التوقيع على اتفاقية للسلام. إلا أن المشكلة التي خلفتها تلك الاتفاقية وراءها, هي مساندة الولايات المتحدة للزعيم الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان, بين كافة زعماء الحرب الأهلية هناك. وعلى الرغم من الحماس الفائض الذي قوبلت به الاتفاقية في أبوجا, إلا أنها ووجهت بردة فعل فاترة باردة في الإقليم نفسه. والسبب أن الكثيرين نظروا إليها على أنها اتفاق بين طرفين, يتحملان الوزر الأكبر من الانتهاكات والفظائع التي شهدها الإقليم. الطرف الأول تمثله الحكومة السودانية, بينما يمثل الطرف الثاني "مني أركوا مناوي", زعيم أحد فصائل "الجيش الشعبي لتحرير السودان", المؤلف على نحو رئيسي من قبيلة الزغاوة. ويعد هذا الفصيل واحداً من ثلاثة فصائل أخرى من حركة التمرد. وقد رفض الفصيلان الآخران التوقيع على الاتفاقية, مع ملاحظة أن قبيلة الزغاوة لا تشكل إلا نسبة تقل عن 8 في المئة من السكان الذين يمثلهم الفصيلان المذكوران. والملاحظ منذ اندلاع التمرد في الإقليم, أن الاعتداءات والانتهاكات الخطيرة المتكررة التي مارستها قوات "مناوي", في مناطق تبعد نحو مئات الأميال عن حدود قبيلة الزغاوة, قد أيقظت مخاوف قديمة نائمة عند أهالي الإقليم, من أن تكون لقبيلة الزغاوة أجندتها الخاصة التي تحاول تمريرها عبر حركة التمرد المطالبة برفع المظالم الواقعة على الإقليم. وتدور هذه المخاوف حول سعي "الزغاوة" لتوسيع بيتهم القبلي, والتمدد بعيداً في الأراضي الزراعية الخصبة الخاصة بالقبائل والمجموعات السكانية الأخرى في دارفور. ولهذا السبب فقد كان قبول السيد "مناوي" لهذه الاتفاقية سبباً كافياً بحد ذاته لمقابلتها بالرفض من قبل كافة أهالي الإقليم. غير أن مأساة الرافضين لها, تكمن في أن للاتفاقية مزاياها ومحاسنها. فقد أقرت الاتفاقية وللمرة الأولى منذ اندلاع النزاع, جدولاً زمنياً واضحاً يتم بموجبه تجريد مليشيات الجنجويد العربية المدعومة من قبل حكومة الخرطوم من أسلحتها. والمعلوم عن هذه المليشيات أنها جعلت من كل ما له علاقة بالحياة أمراً مستحيلاً لأهالي الإقليم. ومن مزاياها أيضاً أنه يحق لأهالي دارفور– خلال ثلاث سنوات من إبرام الاتفاقية- انتخاب ممثليهم البرلمانيين. وإلى أن يتحقق ذلك, سيشغل مرشحو حركة التمرد الموقعة على الاتفاقية, الموقع الرابع الأكثر أهمية في الهرم الرئاسي الحكومي, إلى جانب سيطرتهم على ميزانية مداها أربع سنوات, يخصص فيها مبلغ ربع مليار دولار للقضايا الأمنية وإعادة البناء والتعمير والبرامج التنموية. غير أن الاتفاقية نفسها شملت العديد من الثغرات والنقائص, لعل أهمها التعويل المفرط على حكومة الخرطوم في تنفيذ بنودها, على الرغم من أنه لم يعرف لهذه الحكومة احترامها لأي اتفاق سابق, منذ إطلاقها لقواتها ضد مجموعات التمرد والقبائل الهامشية التي انحدرت منها تلك القوات, في وقت مبكر من عام 2003. ومن أهم نقاط الضعف التي تحسب على الاتفاقية, سلوك "مناوي" الذي لا يبدو مبشراً على الإطلاق منذ لحظة توقيعه عليها وحتى الآن. فقد ظل على ميله الدائم للقوة, في وقت السلام كما الحرب. من ذلك اعتقاله في العشرين من شهر مايو الماضي لـ"سليمان جاموس", أحد أبرز وأشد منتقديه. وقد جرى احتجاز "جاموس" ووضعه في الحبس الانفرادي, دون توجيه أي اتهامات إليه, ولا يزال رهن الاعتقال. يذكر أن المعتقل يشغل وظيفة منسق الشؤون الإنسانية لـ"الجيش الشعبي لتحرير السودان", وأنه ومن موقعه بهذه الوظيفة, سهل على المنظمات التابعة للأمم المتحدة وغيرها الكثير من المنظمات غير الحكومية, مهمة العمل الإنساني في الإقليم. بل ساعد مئات الصحفيين الدوليين على التحرك بحرية تامة في الإقليم, وتوثيق المأساة التي يعانيها أهله. ولم يكتف "مناوي" باعتقال "جاموس" وحبسه انفرادياً فحسب, بل حال دون وصول مسؤولي الأمم المتحدة إليه على امتداد ما يزيد على الشهر الكامل. وعندما أبدى بعض أفراد قبيلة "الزغاوة" قلقهم وتساءلوا عن أسباب اعتقال "مناوي" لـ"جاموس", رد عليهم رئيس فريقه قائلاً: باستطاعتي قتل "جاموس" وإهانتكم جميعاً. وبالفعل جرى تجريد هؤلاء من ملابسهم وربطهم وحرقهم بأعقاب السجائر, إضافة إلى تعرضهم للضرب. وقد أكد مسؤولون من الاتحاد الإفريقي صحة هذه المعلومات, واستهجنوا زعم "مناوي" أن مرتزقة تشاديين هم الذين مارسوا ذلك السلوك ضد المحتجين على اعتقال "مناوي". غير أن الحقيقة تبقى أنه ليس من أحد من أطراف اتفاقية السلام, تجرأ بإعلان انتقاداته لـ"مناوي". وهكذا ظل مسكوتاً عن انتهاكاته في حالتي السلم والحرب! وفيما لو قدر لاتفاقية السلام هذه أن تؤتي ثمارها وتترك أثراً إيجابياً ملحوظاً على الأرض, فإن على الولايات المتحدة الأميركية أن تكف عن دعمها لمجرمي الحرب الأهلية, وعن معاداتها للأطراف والجماعات التي لم تقتنع بعد بجدوى التوقيع عليها. وبدلاً مما تفعله واشنطن الآن, ينبغي عليها تشجيع القادة المعارضين لـ"مناوي", على عقد مؤتمر لهم, يتجاوزون به الحاجز القبلي وينتخبون عبره قيادة تمثل أهل الإقليم بحق. وفوق ذلك, فلا بد للاتفاقية من أن تبدو في نظر غالبية أهالي الإقليم على أنها اتفاقية لسلامهم هم, وليست اتفاقاً يخص مصالح أصغر جماعات الإقليم, كما تبدو هي الآن. جولي فلينت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤلفة مشاركة في كتاب:"دارفور: تاريخ موجز لحرب طويلة" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"