رغم انتعاش الآمال في الآونة الأخيرة بإمكانية سحب الولايات المتحدة الأميركية لقواتها من العراق بفضل التقدم المحرز على الصعيد السياسي، مازالت الأوضاع في أفغانستان، الجبهة الثانية للحرب على الإرهاب والأقل استقطاباً للاهتمام، تسير في الاتجاه المعاكس، وتحذر من مغبة التسرع في الانسحاب سواء من أفغانستان أو العراق. وإذا كان الرئيس الأميركي قد امتنع عن وضع جدول زمني محدد للانسحاب من العراق، وأبدى حذراً واضحاً في تقييم الوضع الأمني عقب مقتل "أبو مصعب الزرقاوي" واستكمال تشكيل الحكومة العراقية بعد تعيين وزيري الدفاع والداخلية، إلا أن السياسيين على الجانبين الأميركي والعراقي يضغطون في اتجاه الانسحاب، بل إن هناك من بدأ الحديث عن جدول زمني للانسحاب. بيد أن تجربة انسحاب جزء من القوات الأميركية من أفغانستان تبعث بإشارات مقلقة عن النتائج المترتبة عن الانسحاب في بلد مازال يتلمس طريقه. فبينما تتهيأ القوات الأميركية بالانسحاب من المناطق الجنوبية لأفغانستان لتحل مكانها قوات من حلف شمال الأطلسي صعد المتمردون من عملياتهم العسكرية مستغلين الفراغ الذي أحدثه الانسحاب ومنفذين أعنف العمليات منذ سقوط حركة "طالبان" في أواخر سنة 2001. ويعتقد الخبراء أن ما يحصل في أفغانستان حالياً من تزايد أعمال العنف كان متوقعاً بالنظر إلى الوضع الانتقالي في البلاد وتحول السلطة من أيدي القوات الأميركية إلى أيدي قوات حلف "الناتو"، وهو ما شجع المتمردين على التصعيد من عملياتهم رغبة منهم في اختبار قدرات القوة الجديدة ومدى إصرارها على المواجهة. ومع ذلك ينظر المراقبون باهتمام إلى تجربة الانسحاب من أفغانستان لاستخلاص الدروس بخصوص العراق الذي كثر الحديث مؤخراً عن ضرورة انسحاب القوات الأميركية من أراضيه. وفي هذا الإطار يقول "ويليام ناش"، وهو محلل عسكري في "لجنة العلاقات الخارجية" بالكونجرس الأميركي: "علينا تسليم زمام الأمور في العراق فقط عندما نشعر بأن القوات العراقية البديلة قادرة فعلاً على تحمل الأعباء". السياسيون العراقيون من جهتهم يؤكدون في كل مرة على استعدادهم لتولي الملف الأمني، حيث أشار مستشار الأمن القومي العراقي إلى أن قوات التحالف ستنخفض إلى 100 ألف جندي مع نهاية السنة الجارية وستختفي تماماً عن الأنظار في بحر السنتين المقبلتين. أما على الجانب الأميركي فقد تقدم جون كيري السيناتور الأميركي عن ولاية ماساتشوستس بمشروع قرار إلى الكونجرس خلال هذا الأسبوع يقضي بسحب القوات الأميركية من العراق قبل نهاية السنة الجارية. ورغم حظوظ القانون الضئيلة في نيل موافقة نواب الكونجرس، فإن مجرد طرحه للتداول يؤشر على الضغوط المتواصلة التي يمارسها السياسيون الأميركيون لإعادة القوات الأميركية إلى أرض الوطن. والحال أن الأوضاع الأخيرة التي جدت في أفغانستان من ارتفاع حدة عمليات المتمردين خففت من شدة مطالب الانسحاب. فبعدما كانت أفغانستان طيلة السنوات الماضية مثالاً للنجاح الأميركي في فرض الأمن وبناء الدولة، بدأت تلك الصورة تهتز تحت وقع ضربات قوات "طالبان". فرغم التزايد في وتيرة العنف منذ الغزو الأميركي لأفغانستان سنة 2001، شهدت السنة الجارية طفرة ملحوظة في العمليات العسكرية التي ينفذها فلول "طالبان" بعدما تمكنت لأول مرة منذ الحرب من فرض سيطرتها مؤقتاً على بعض المناطق وإلحاقها خسائر فادحة بالقوات الأفغانية. ويبدو أن المتمردين يسعون إلى استغلال المرحلة الانتقالية التي يتم فيها تحويل السلطة من أيدي القوات الأميركية إلى قوات حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك يؤكد القادة العسكريون أن الأوضاع سرعان ما ستتغير لصالح قوات "الناتو" ما إن تصل هذه الأخيرة إلى ذروة قوتها مع حلول الخريف المقبل. ويذهب بعض المراقبين إلى أنه لا مناص من استمرار القوات الأميركية في دعم قوات "الناتو" رغم تولي هذه الأخيرة إدارة شؤون منطقة جنوب أفغانستان. والسبب في نظرهم يرجع إلى انصراف قوات حلف شمال الأطلسي إلى عمليات إعادة الإعمار وتدريب الجنود الأفغانيين بينما لا تعوض القوات الأميركية في عمليات مكافحة الإرهاب. وما لم تستمر القوات الأميركية في الاضطلاع بدورها المحوري لن يحالف النجاح مهمة "الناتو" في أفغانستان. وفي هذا الإطار يعبر "ناش" عن قلقه من الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع قوات "الناتو" بحيث تنظر إلى الأمر على أنه "قواتنا في مقابل قواتهم"، مضيفاً أن القوات الأميركية تعتبر أفغانستان بعد تسلم "الناتو" السلطة فيها "مشكلة خاصة بهم ولا دخل لنا بها". وإدراكاً منها بخطورة الوضع الأمني بأفغانستان أطلقت أميركا يوم الأربعاء الماضي أكبر حملة عسكرية منذ دخولها البلاد سنة 2001 يشارك فيها أكثر من 11 ألفاً من القوات الأميركية والبريطانية والكندية، إلى جانب القوات الأفغانية لاجتثاث المتمردين من معاقلهم القوية في الجنوب. ولأن الوضع الأمني في العراق أسوأ منه في أفغانستان لم يستبعد "ناش" أن تلجأ القوات الأميركية إلى تعاون مماثل مع باقي القوات الأجنبية في العراق لشن حملة واسعة ضد المتمردين. ولعل الهاجس الأهم الذي ظهر في أفغانستان ويؤرق الأميركيين هو ترك حكومة عاجزة عن فرض سلطاتها تتدبر أمورها بنفسها، حيث أعلن بوش عن مخاوفه لرئيس الحكومة العراقية أثناء زيارته الأخيرة إلى بغداد. فقد صرح بوش أمام الصحفيين يوم الأربعاء الماضي في حديقة البيت الأبيض قائلا "إن القادة العراقيين يشعرون بقلق عميق من أن الاستقرار الذي توفره قوات التحالف قد يضعف وينجم عن ذلك فراغ"، متعهداً بإبقاء ما يكفي من القوات الأميركية لإنجاح الحكومة العراقية. وفي الوقت نفسه امتنع بوش عن تحديد جدول زمني للانسحاب. وتبقى المشكلة في أفغانستان أن المتمردين نجحوا في سد الفراغ الذي أحدثه انسحاب القوات الأميركية. وفي هذا الصدد يقول "سيث جونز"، وهو خبير في الإرهاب: "إذا كانت هناك حكومة ضعيفة فإن الدعم غالباً ما يوجه إلى المتمردين، إذ لماذا يستمر الناس في مساندة حكومة يعتبرونها غير قادرة على مواجهة المتمردين بكفاءة". ويتفق مع هذا الطرح قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال "كارل إيكنبوري" الذي اعتبر أن العنف المستشري في الجنوب لا يرجع إلى قوة المتمردين بقدر ما يرجع إلى ضعف مؤسسات الدولة وعجزها عن فرض سلطتها. مارك سنفيلد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر الشؤون الخارجية في صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"