أحدث ترشيح سيجولين رويال المفاجئ للمنصب الرئاسي, ربكة لكافة الحسابات السياسية والتوقعات الانتخابية في فرنسا, بما فيها توقعات الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي انتمت إليه عقب تخرجها من المدرسة الوطنية للإدارة النخبوية المميزة. ومنذ تلك اللحظة وإلى الآن, ظلت سيجولين تراوح بين كونها ناشطة في مجال الخدمة المدنية, أو سياسية بمكتب الرئيس السابق فرانسوا ميتران في عقد الثمانينيات, ووزيرة هامشية في مختلف الحكومات الاشتراكية. إلى ذلك تولت منصب رئاسة إحدى المقاطعات الفرنسية, في وظيفة ثانوية أيضاً. وهي تفتقر إلى الخبرة اللازمة بالعالم الخفي الذي يقع في الشق الرمادي من الحياة السياسية الفرنسية. وبوجه عام يمكن القول إن الخبرة الوحيدة لسيجولين هي كونها ابنة لضابط عسكري فرنسي خدم في الخارج ثم تحول إلى جنرال متقاعد الآن. ولكن يبدو أنها ورثت من عائلتها فنون الإبانة والخطابة, فضلاً عن تدربها على معاني الرمزية السياسية. ولعل هذه المهارات هي التي تفسر الرواج والقبول اللذين تحظى بهما في أوساط أعضاء الحزب الاشتراكي وعامة الشارع الفرنسي. وتشير استطلاعات للرأي أجريت مؤخراً, إلى أنه فيما لو عقدت الانتخابات الرئاسية في الوقت الحالي, فمن المرجح أن تتفوق سيجولين على كافة المرشحين المنافسين لها بلا منازع, بمن فيهم النجم المحافظ اللامع, نيكولا ساركوزي! فقد ووجهت تعليقاتها على قضايا الأمن القومي بكثير من الحماس والترحيب, في بلد تتصاعد فيه معدلات البطالة على نحو مثير للقلق والمخاوف. كيف لا وقد كانت هي من أطلق شرارة نيران العنف والشغب في أوساط "غيتو" المهاجرين بصفة خاصة, ثم المظاهرات الطلابية التي اندلعت استجابة لتعديلات تشريعية ليبرالية طفيفة, طرأت على قانون العمل الفرنسي. أما المزاج الفرنسي الشعبي العام –كما وصفته الصحافة المحلية- فيشير إلى حالة من الاستياء العام, سواء إزاء الجانب الحكومي, أو تجاه الأحزاب السياسية المعارضة. غير أن النجاح الذي لاقته سيجولين رويال, يعود بالدرجة الأولى إلى حديثها الذي فجّر جميع التابوهات والمحرمات السياسية, وتحدى مفهوم الصحة السياسية, لاسيما تلك التي يؤمن بها حزبها الاشتراكي بالذات. ولعل خير شاهد على ذلك, تناولها لأحداث العنف التي بدرت من أوساط الشباب المهاجرين المقصيين إلى حد كبير عن المجتمع الفرنسي. فبدلاً من لغة وألفاظ الاستهجان, ورمي المشاركين في تلك الأحداث بما يندرج في باب الإساءة والتعميم أكثر مما يسهم في فهم الظاهرة وحلها من جذورها, تناولت سيجولين ما حدث من زاوية أهمية الاستجابة المؤسسية الموضوعية له. وضمن ذلك اقترحت اعتبار المؤسسة العسكرية الفرنسية, إحدى المؤسسات التي يمكنها تدريب هؤلاء الشباب وإكسابهم مهارات العمل التي تضعهم على طريق الوظيفة والحياة العملية. كما اقترحت ضرورة خلق صلات مع أسر الشباب المهاجرين, بغية إعادة النظام في تلك الأسر, والإشراف على أوجه صرف المساعدات الحكومية المالية التي تقدمها الدولة لها. وشملت اقتراحاتها كذلك إعادة النظام والانضباط في المدرسة وفصول الدراسة, بما في ذلك تعيين شخص راشد إضافي في كل فصل من الفصول المضطربة, التي يتكرر فيها حدوث الفوضى والشغب. أما بالنسبة للشباب المتهرِّبين من الدراسة, فلابد من تخصيص مدارس لهم, مع أهمية وسرعة التدخل ما أن تقع أول حادثة هروب لأحدهم من الفصل الدراسي. وقالت سيجولين إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لهؤلاء الشباب هو أن تنتهي حياة الواحد منهم إلى السجن في مرحلة مبكرة من عمره. كما انتقدت سيجولين أسبوع العمل المؤلف من 35 ساعة, مع العلم بأن هذا الأسبوع كان قد تحقق بمبادرة من آخر حكومة اشتراكية أدارت فرنسا. وكان المبدأ الذي قام عليه اعتماد هذا الأسبوع, هو ملاحظة تمتع المديرين والمسؤولين التنفيذيين في المستوى الوسيط, بعدد إضافي من العطلات, دون أن يؤثر ذلك على عملهم أو حياتهم الخاصة, مقابل حرمان العمال وخاصة النساء العاملات اللائي يقمن بالمهن والأعمال الشاقة, وتحول مفهوم "مرونة العمل" بالنسبة لهن إلى ساعات لا اجتماعية وعمل مستمر خلال عطلات نهاية الأسبوع, إضافة إلى إرباك جدول الأسر وحياتها. ومهما يكن من أمر ومصير الاقتراحات التي تقدمت بها سيجولين لحل المشكلة, فهي تتسم بالوضوح في التناول والحس العملي, إلى جانب ابتعادها عن التبريرية والتهرب من مواجهة المشكلة. كما كان ترحيبها بمناقشة الجمهور ومشاركته بالرأي, عاملاً مهماً من عوامل نجاحها, وتحويلها سلوك الجمهور المعادي المستاء من حديث الساسة التقليديين, إلى سلوك إيجابي. غير أن النقاد والمعارضين الفرنسيين هزئوا من أفكارها وأحاديثها, واصفين إياها تارة باليمينية, وتارة أخرى بأنها نسخة أخرى من ساركوزي وزير الداخلية الذي كثيراً ما وصفت أساليب عمله وتفكيره بالوصاية والقهر والتشدد. بل إن هناك من الاشتراكيين من ذهب إلى القول "يكفينا ساركوزي واحد في هذه البلاد... فما بالنا بواحد آخر"! وبين هذا وذاك, هناك من لفت الأنظار وسلَّط الأضواء على تأييد اليميني المتطرف جان ماري لوبن لبعض مقترحاتها وأفكارها التي طرحتها, على نحو ما أوردنا آنفاً في هذا المقال. والمقصود بلفت النظر هذا, أنها تقتفي أثر لوبن في تبنيها لمفاهيم اللاعدل والتمييز الاجتماعيين بين المواطنين الفرنسيين. وربما كان إعلانها تأييدها لتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني, هو أكثر ما أبعد عنها جزءاً من أصدقائها الاشتراكيين الفرنسيين. أما في الساحل الآخر من المحيط الأطلسي, فقد عقد المراقبون والمحللون مقارنات بينها وبين توني بلير وبيل كلينتون. وفي هذا السياق وصف البعض كلينتون بأنه أبلى بلاءً حسناً في الحصول على أصوات الناخبين, إلا أنه ترك حزبه بعد توليه الرئاسة عالقاً بين السماء والأرض, بلا مبادئ ولا قواعد يتكئ عليها. وأضاف هؤلاء أن تلك التركة ألقت بظلال سالبة وسيئة على السياسات الرئاسية الأميركية برمتها إلى اليوم. لكن على نقيض كلينتون تماماً, تتبنى رويال مواقف ومبادئ يخشى حزبها نفسه من الإفصاح عنها وتبنيها بالشجاعة التي أبدتها هي. وعلى أية حال, فإن الاغتراب السياسي هو المعضلة الكبرى التي تواجهها كافة الديمقراطيات الغربية, ولاسيما الديمقراطية الفرنسية, على نحو ما رأينا في أحداث الشغب بين فئات المهاجرين, والمظاهرات الطلابية الأخيرة, إضافة إلى رفض الفرنسيين لمسودة الدستور الأوروبي. ولا يزال الحد الزمني الفاصل بين الناخبين والمعركة الانتخابية الرئاسية, عام كامل من الآن. فهل في وسع رويال إحداث فارق إيجابي في هذا الحيز الزمني؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"