تنتشر الأزمة الشعبية بشكل كبير بين شعوب ودول العالم المختلفة، إلى درجة أن منظمة الصحة العالمية تقدر أن عدد المصابين يتراوح ما بين 100 و 150 مليوناً، وهو ما يزيد على تعداد سكان روسيا الاتحادية بأكملها. ورغم أن الكثيرين يعتقدون أن الأزمة الشعبية هي مرض حميد إلى حد ما، تظهر الإحصائيات أن الأزمة الشعبية تتسبب في وفاة أكثر من 180 ألف شخص سنوياً. وعلى عكس الكثير من الأمراض الأخرى، لا يفرق هذا المرض بين أغنياء العالم وفقرائه. ففي ألمانيا مثلاً، يوجد أربعة ملايين مريض مصابون بالأزمة الشعبية. أما في أستراليا، فتصيب الأزمة الشعبية طفلاً من بين كل ستة أطفال، تحت سن السادسة عشرة. وهو ما ينطبق أيضاً على اليابان، حيث يوجد ثلاثة ملايين شخص مصابون بالأزمة الشعبية. بينما يعاني 8% من سكان سويسرا من شكل أو آخر من المرض. وإذا ما انتقلنا إلى دول العالم الثالث، فلن نجد الوضع أفضل مما هو عليه في الدول الغنية. حيث تصيب الأزمة الشعبية في الهند وحدها، ما بين 15 مليوناً إلى 20 مليون شخص. وفي دول أميركا الجنوبية، مثل البرازيل وبيرو والباراجواي، نجد أن الأزمة الشعبية تصيب ما بين 20% إلى 30% من أطفال تلك الدول. وبخلاف المئات الذين يلقون حتفهم يومياً بسبب الأزمة الشعبية، يتسبب هذا المرض في عبء مالي ضخم على عاتق جميع دول العالم، سواء الغني منها أو الفقير. فعلى المستوى العالمي، تشير التقديرات إلى أن الثمن الاقتصادي المباشر وغير المباشر للأزمة الشعبية، يزيد عن الثمن الاقتصادي لمرضي السل الرئوي والإيدز معاً. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تكلف الأزمة الشعبية الاقتصاد الأميركي، أكثر من ستة مليارات دولار سنوياً (22 مليار درهم)، بينما ينفق البريطانيون على هذا المرض، بشكل مباشر أو غير مباشر، قرابة الملياري دولار سنوياً. وإذا ما كانت معدلات انتشار الأزمة الشعبية تثير القلق، فإن تزايد هذه المعدلات بمرور الوقت، هو المصدر الحقيقي للمخاوف التي تتملك أفراد المجتمع الطبي بخصوصه. فنسبة الثمانية في المئة من السويسريين من المصابين بالأزمة حالياً، هي أربعة أضعاف نسبة من كانوا مصابين بالمرض قبل ثلاثين عاماً، حيث كانت لا تزيد نسبة الإصابة حينها عن 2%. وفي أوروبا بوجه عام، تضاعفت معدلات الإصابة بالأزمة الشعبية خلال عشرة أعوام فقط، حسب إحصائيات معهد الحساسية ببلجيكا. ولا يختلف الوضع كثيراً في الولايات المتحدة، حيث زاد عدد الأطفال المصابين بالأزمة الشعبية من 3.6% في عقد الثمانينيات، إلى 9% حالياً، وفي نفس الوقت تضاعف عدد الوفيات في الولايات المتحدة، ليصل حالياً إلى أكثر من خمسة آلاف وفاة سنوياً، حسب إحصائيات مركز مكافحة الأمراض بأطلانطا. هذه الآلاف من الوفيات لا تحدث في مناطق فقيرة أو نائية، بل في واحدة من أغنى دول العالم، وأكثرها تقدماً على صعيد الرعاية الصحية. هذا الموقف المؤسف، والمتردي باستمرار، يدفعنا لإعادة النظر في عوامل الخطر التي تزيد من احتمالات الإصابة بالأزمة الشعبية، في محاولة لفهم هذا الانتشار المتزايد والمطرد دوماً، وسعياً للوصول إلى أفضل سبل الوقاية. ولكن للأسف مرة أخرى، وعلى عكس العلاقة بين عوامل الخطر وبعض الأمراض الأخرى -مثل العلاقة بين التدخين وسرطان الرئة أو العلاقة بين السمنة وداء السكري- لا نجد دائماً علاقة مباشرة بين عوامل الخطر وبين الأزمة الشعبية. وإن كان من المعروف أن وجود تاريخ عائلي للإصابة بالمرض، أو غيره من أمراض الحساسية، يزيد من احتمالات الإصابة بالأزمة الشعبية. ويزداد هذا المرض أيضاً بين الأطفال المبتسرين أو الخدج، وبين الأطفال المولودين ناقصي الوزن، أو إذا ما كانت الأم تدخن أثناء الحمل. ويتمتع هذا المرض بعلاقة غريبة مع الذكورة والأنوثة، حيث يزيد قبل فترة البلوغ بين الذكور، بينما يأخذ شكلاً مزمناً بين الإناث بعد فترة البلوغ. ويعتقد البعض أن حدوث عدوى تنفسية فيروسية أثناء مرحلة الطفولة المبكرة، قد يمهد للإصابة بالمرض في مرحلة متأخرة من الطفولة. وترتبط الأزمة الشعبية بشكل وثيق بمجموعة خاصة من العوامل، يمكن أن نطلق عليها العوامل المثيرة أو المفجرة (triggers)، وهي العوامل التي تتسبب في بدء الأزمة في شكلها المألوف، وربما حتى تساعد على الإصابة بالمرض من الأساس. أول هذه العوامل، هي المجموعة المعروفة بالمواد المثيرة للحساسية، أو المحسسات (allergens)، والتي غالباً ما يتم استنشاقها. مثل المحسسات الناتجة عن فضلات الحشرات التي تقطن المنازل، أو خلايا وشعر الحيوانات الأليفة. أما المجموعة الثانية من العوامل المثيرة، فتندرج جميعها تحت ملوثات الهواء. مثل غاز الأوزون، وثاني أوكسيد النيتروجين، وثاني أوكسيد الكبريت. هذه الغازات تنتج ضمن كوكتيل عوادم السيارات، ويعتقد البعض أنها السبب خلف ارتفاع معدلات الإصابة بالأزمة الشعبية في المناطق الحضرية، مقارنة بالضواحي والمناطق الريفية. وتتنوع وتتعدد باقي المثيرات التي يمكن أن تسبب نوبات الأزمة الشعبية، لتتراوح ما بين ممارسة الرياضة، إلى التعرض للتوتر والضغوط النفسية. هذا التنوع الهائل في الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالمرض، وفي الظروف التي تؤدي لحدوث النوبات، إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الأزمة الشعبية هي مرض بالغ التعقيد، تؤثر في مساره عوامل وراثية، وبيئية، وأخرى نموية تطورية، تتفاعل مع بعضها بعضاً لتنتج الشكل الإكلينيكي المعهود. ويدل أيضاً على أن الطب الحديث، لم يستطع بعد الإمساك بجميع خيوط هذا المرض، رغم قدمه التاريخي، ورغم استمرار وقوع الملايين ضحايا له بشكل دائم. د. أكمل عبد الحكيم