إذا ثبت إقدام ثلاثة من سجناء مخيم الـ"دلتا" في جزيرة غوانتانامو الكوبية (سعوديان ويمني) على الانتحار يوم السبت الماضي، فإن الأمر ليس مفاجئاً لمن يعرف شيئا عن هذا السجن الرهيب: طبيعته وقوانينه، والطريقة التي يعامل بها السجناء فيه. وهو ليس مفاجئاً لمن يعرف أن أكثر من خمس وعشرين محاولة انتحار تمت من قبل ولم تنجح، مما يعكس الدرجة التي وصلت إليها الحالة الإنسانية للسجناء بعد إقامة تقترب من خمس سنوات. وهي ليست مفاجئة إذا عرفنا أن من يفكرون من السجناء هناك بالإضراب عن الطعام احتجاجاً على ظروفهم وطريقة معاملتهم يخضعون لعملية تغذية قسرية، ومؤلمة بشكل مقصود لإنهاء الإضراب. وعملية الانتحار أيضاً ليست مفاجئة لمن يعرف أن سجناء غوانتانامو تحولوا منذ اليوم الأول إلى فئة من البشر تختلف عن غيرها، لا حقوق لهم، ولا مكانة لهم، ولا صفة قانونية لهم. هم في نظر الإدارة الأميركية أقرب إلى الحيوانات. قررت هذه الإدارة أن تبني لهم سجناً خاصاً، وبمواصفات خاصة تليق بهم في جزيرة غوانتانامو، وتحت إشراف وسلطة وزارة الدفاع، أو البنتاغون، أي سلطة عسكرية وليست مدنية. وجزيرة غوانتانامو هذه جزيرة كوبية، تحتلها الولايات المتحدة بالقوة العسكرية. ومن هنا فإن وضع السجناء هناك يجعل منهم فئة من دون صفة قانونية. فهم طبعاً لا يخضعون للقانون الكوبي لأنهم تحت السلطة الأميركية. ولكنهم لا يخضعون للقانون الأميركي أيضاً لأنهم مقيمون خارج الولايات المتحدة الأميركية. أضف إلى ذلك أن الإدارة ترفض بشكل قاطع اعتبار هؤلاء السجناء كسجناء حرب، لأنها لا تريد لهم أن يتمتعوا بالحقوق الواردة في "معاهدة جنيف"، والمتعلقة بمعاملة ومحاكمة سجناء الحرب. بدلاً من ذلك اخترعت لهم صفة غير مسبوقة، وغير قانونية، وهي أنهم "محاربون ليسوا شرعيين"، مما يسمح لها بمعاملتهم بطريقة غير شرعية ولا قانونية. ولهذا اخترعت لهم هذا السجن غير الشرعي، واخترعت لهم هذه الصفة، أو المكانة غير الشرعية. ثم تركتهم هناك ليتعفنوا عقاباً لهم على تورطهم فيما تسميه بـ"الإرهاب". وبعد كل ذلك، لا تجد الإدارة الأميركية تهمةً واحدةً توجهها لهؤلاء السجناء "المجرمين" إلى درجة الحيوانية في نظرها، إلا لعشرة منهم فقط. فمن أصل أكثر من ستمائة سجين في غوانتانامو، لم توجه التهمة إلا لعشرة فقط. بعبارة أخرى، لم تتمكن الإدارة من توجية الاتهام إلا لأقل من 1.7% من مجموع السجناء، فماذا يعني ذلك؟ يعني أن إدارة جورج بوش، بعد كل ما جمعته من معلومات استخباراتية من أجهزتها هي، ومن استخبارات الدول الأخرى، مثل بريطانيا وإسرائيل وباكستان، والدول العربية، وعلى مدى أكثر من خمس سنوات، لا تملك تهمةً واحدةً توجهها لأي من هؤلاء السجناء، وتهمة يمكن أن تصمد في محاكمة قانونية. الاستثناء هنا طبعاً هم أولئك العشرة. وحتى هؤلاء سيمثلون أمام محكمة عسكرية مشكوك في صفتها القانونية. أن تخشى الإدارة الأميركية من تقديم هؤلاء السجناء إلى محكمة مدنية، يعني أحد أمرين: إما أنها لا تملك من الأدلة ما يمكن أن يصمد أمام محكمة مدنية، فيها محامون وهيئة محلفين، أي محكمة مستقلة عن سلطات وزارة الدفاع. وهذا ما يبدو أنه الحقيقة في ضوء ما قيل من أن الإدارة لم توجه تهمةً محددةً إلا لعشرة فقط من مجموع سجناء غوانتانامو. الأمر الذي يفرض السؤال: لماذا إذن إبقاء هؤلاء مسجونين كل هذه المدة من دون تهمة؟ لماذا لا تحاكمهم الولايات المتحدة، أو تطلق سراحهم، أو تسلمهم لحكومات بلدانهم؟ هنا يبرز السؤال عن دور الحكومات العربية في كل ذلك. ما يبدو في العلن أن هناك صمتاً عربياً، خاصة من دول مثل السعودية ومصر واليمن، والتي ينتمي أغلب السجناء إليها. لماذا لا تمارس هذه الدول ضغوطاً سياسية وقانونية علنية على الإدارة الأميركية لحسم هذه المأساة. إن تركها تستمر هكذا من دون حل، والسماح لها أن تصبح موضوعاً للتجاذب بين الإدارة الأميركية وحلفائها الأوروبيين ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، يجعل من هذه الدول تبدو غير آبهة بمصير رعاياها، أو أنها تحاول تفادي الاصطدام مع إدارة بوش مخافة مواجهة تهمة الإرهاب، أو مخافة تزايد الضغوط عليها! كل ما يسمعه مواطنو هذه الدول من احتجاجات، ومحاولات للضغط على الإدارة الأميركية، لا يأتي إلا من الدول الأوروبية، ومن منظمات حقوق الإنسان الدولية. لا يسمعون شيئاً بحجم المشكلة يأتي من حكوماتهم، تحديداً. هناك بعض المحاولات والجهود من منظمات حقوق الإنسان، الرسمية وغير الرسمية في هذه الدول، لكن هذه الجهود غير مسنودة بجهود وضغوط رسمية علنية. تبدو وكأنها من نوع جهود رفع العتب، لا أكثر. أكثر من خمس سنوات مضت على سجناء غوانتانامو: لا يسمح لهم بالاتصال بأحد، في حالة عزلة تامة، لا يعرفون ما هي تهمتهم، ولا يعرفون شيئاً عن مستقبلهم. في لقاء مع محطة الـ"بي بي سي" البريطانية شرح سجين غوانتانامو الكويتي، فوزي العودة، حالته بشكل يعكس الواقع السائد بين سجناء غوانتانامو. المقابلة تمت من خلال محامي فوزي، لأن أنظمة هذا السجن لا تسمح حتى للصحفيين بالاتصال المباشر مع السجناء. المقابلة منشورة على موقع المحطة بتاريخ 4 مارس 2006. يقول فوزي، "أنا في حالة استسلام. لم يعد لدي أي أمل. لم أعد أهتم بأي شيء. كل ما أريده هو أن يطلق سراحي. صحتي لا تهمني. الموت أفضل إذا كان هذا سيساعد على إنهاء الحالة التي نحن عليها الآن". ويواصل حديثه عن أسلوب معاملته من قبل السجانين، فيقول: "قالوا لي إذا استمررت على الإضراب عن الطعام، فسوف نعاقبك. في البداية أخذوا يصادرون ما تبقى لي من حاجيات واحدة بعد الأخرى: البطانية، والفوطة، والبنطلون، وأخيراً حذائي. ثم تم عزلي لمدة عشرة أيام في مكان آخر". يقول فوزي: "المشكلة الحقيقية هنا ليست في الظروف المرعبة للسجن: طعام سيئ، عدم وجود مواد للقراءة، رعاية صحية سيئة، والعزلة. المشكلة الحقيقية أننا هنا من دون سبب، من دون أمل، ومن دون محاكمة. أنا إنسان بريء، لم أرتكب أي خطأ. لكنني لم أعطَ الفرصة لإثبات ذلك". إصرار الحكومة الأميركية على عزل هؤلاء السجناء عن العالم، وجعلهم فئة خارج كل الأطر القانونية، وعدم قدرتها على توجيه تهمة معينة لهم، يدعم ما ذهب إليه فوزي في مقابلته، وهي مقابلة طويلة. من هذه الزاوية تشير عملية انتحار الثلاثة إلى استحكام حالة اليأس الإنساني بين سجناء غوانتانامو، هذا السجن غير الإنساني. ولابد أن حالة اليأس وصلت إلى درجة لم يعد من الممكن احتمالها إنسانياً. فالسجناء هم من المسلمين الذين يعرفون معرفة تامة حرمة الانتحار في الإسلام. وهذه الحرمة معروفة لكل مسلم مهما كانت درجة تعليمه. وإذا عرفنا أن السجناء هم من السلفيين الناشطين فلابد أنهم يعرفون هذه الحرمة أكثر من غيرهم، ويدركون خطورتها على مآلهم في الآخرة. قد يبدو بالنسبة للبعض أن هذا الاستنتاج تحصيل حاصل، أو من نوع البديهيات المعروفة سلفاً في مثل هذه الحالة. لكن الأمر بالنسبة للإدارة الأميركية، أو على الأقل بالنسبة للسلطات الأميركية التي تتولى إدارة سجن غوانتانامو ليس كذلك على الإطلاق. إقدام الثلاثة على الانتحار، يقول الأدميرال هاري هاريس قائد المخيم، هو "بمثابة إعلان حرب على الولايات المتحدة". تصور، إن القائمين على السجن يعتبرون الانتحار "إعلان حرب"! أي حرب يقصد الأدميرال هنا؟ يقصد حرباً إعلاميةً بالطبع. لكن لماذا استخدم كلمة "حرب" تحديداً في وصف الانتحار؟ لاحظ هنا أن الأدميرال لم يأبه لموت السجناء. ولم يأبه أن له دوراً في موتهم. ولم يأبه لوقع هذا الموت على أهليهم. كل ما اهتم به هو وقع الحادثة وأثرها عالمياً على سمعته، وسمعة سجنه، وسمعة حكومته. ولأنه يدرك حجم الجريمة التي ارتكبت بحق هؤلاء السجناء، ويدرك حجم مساهمته في هذه الجريمة، وحجم الأثر الذي سوف تتركه على مستقبل غوانتانامو، اعتبر الانتحار نوعاً من الحرب! وهذا تسليم خفي بالهزيمة، لكنه تسليم أرعن، لا ينم عن ذكاء، ويؤكد الرسالة التي انطوت عليها عملية الانتحار. عملية الانتحار تضاف إلى سجل إدارة بوش في "أبوغريب"، ومجازر "المارينز" في "حديثة" و"الإسحاقي" في العراق، ومئات الآلاف من العراقيين الذين قضوا على يد الإرهاب، لكن تحت ظل الاحتلال أيضاً. أين هي حرب الإرهاب؟ وماذا حصل للديمقراطية الأميركية؟ ثم أين هي الحكومات العربية من أبنائها وهم يذهبون حصاداً لكل هذه السياسات والممارسات الإجرامية؟