أرسطو (الدماغ الأول) والأكبر رأى أن مركز التفكير هو القلب، وأن الدائرة أفضل شكل للدوران، وأن أفضل مناهج العقل هو المنطق الصوري، وأن العبودية قدر إنساني؛ فأخطأ أربع مرات في البيولوجيا والكوسمولوجيا ومناهج التفكير والاجتماع الإنساني. ففي الطب علمنا أن مركز التفكير ليس القلب، فهو لا يزيد على عضلة صماء، وبعمليات زرع القلب لم نلاحظ أي تغيير في الشخصية أو التفكير، فثبت بطلان رأي صاحب (العقل الأول) بطريقة تجريبية بحتة. وثبت فلكياً أنه ليست أفضل حركات الدوران كمالاً هي الدائرية، إذا لكانت حركة الأفلاك والكواكب كذلك، وتبين فلكياً أن أفضلها للدوران هي القطع الناقص الإهليلجي، بما فيها حركة الإلكترون حول البروتون في الذرة، كما أثبت ذلك العالم الفيزيائي "سومر فيلد" عام 1948. والفرق بين الدائرة و"القطع الناقص" يمكن فهمه بقطع عمود بشكل زاوية قائمة، أو على نحو مائل، فالقطع الأول هو الدائرة، والثاني هو الشكل الإهليلجي. ولم يتقدم الفكر الإنساني وعلم الاجتماع؛ إلا بالخروج من أقنية التفكير الخانقة والمسدودة، التي شادها أرسطو بطريقة المنطق الصوري باعتماد الاستنباط Deduction من خلال تدشين المنهج الاستقرائي Induction. وبقي الفكر الإنساني معطلاً مشلولاً ألفي عام، حتى ساد مثل السوء، حين يقول الناس، عن عقم أي محاولة للفهم والتفاهم بكلمة الجدل البيزنطي، أو عقم الفلسفة عموماً بكلمة "لا تتفلسف؟!". والفرق بين المنهجين هائل، يقترب الأول فيه من الحقيقة بتطبيق القاعدة من فوق لتحت، أما الاستقرائي فبالعكس، ويجمع الملاحظات من الواقع، ليشتق منها قانوناً عاماً، قابلاً للنمو. وبالطريقة الأولى قاد الافتراض الخاطئ من بداية خاطئة إلى نتائج كارثية، وبالثانية أمكن وضع قانون (الاحتمالات)، الذي صاغه الألماني "غاوس"، من خلال اعتماد منهج ديكارت في الهندسة التحليلية، ورسم المخططات البيانية. والقرآن لفت النظر إلى (الواقع)، بالنظر إلى الأرض كيف سطحت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الإبل كيف خلقت، وأن صحة الكتاب ستظهر من خلال آيات الآفاق والأنفس. وعند محمد إقبال، الفيلسوف الهندي، يعتبر كل من (الطبيعة) و(التاريخ) مصدراً أساسياً للمعرفة. وهو ما عاش عليه المسلمون وأهل الكتاب عموماً، حين فكوا النصوص الدينية عن الواقع والطبيعة والتاريخ. وحين يتعطل العقل عن فهم مصادر الحقيقة، لا تفيده أية حقيقة، فساعة يكون مثل الكلب أن تحمل عليه يلهث، أو تتركه تتركه، وساعة مثل الحمار يحمل أسفاراً. والكفر والإيمان هنا أصبح مدارهما حول استخدام العقل لفهم مصادر المعرفة، أو تعطيل تلك الحواس.. فيمرون على الآيات وهم عنها معرضون.. وهكذا يتحرر العقل من المسلمات، ويرتكن إلى الواقع، فهو أصدق من كل نص كتب عنه مهما كان مصدره، لأنه النص الأساسي الذي لا يقبل التحريف والتغيير. كذلك فإن (العبودية) ليست خطأ كرموسومياً؛ كما تصور أرسطو، بل هي قدر يتشكل من خلال ثقافة إنسانية مريضة. ولم تتحرر البشرية من أسر العبودية بالنصوص، بل بالتطور التاريخي. وحسب "توينبي"، المؤرخ البريطاني، فإن الآلة الصناعية قادت تلقائياً إلى التخلص من الآلة العضلية، فهذا هو قدر التطور التاريخي. والإسلام قاد إلى التعديلين الأخيرين فساهم في تطوير حركة التاريخ، من خلال دفع العقل إلى مسارب منهجية جديدة في العودة إلى الواقع، ومن خلال تدشين الخطوات الأولى لتجفيف مستنقعات الرق. وما حصل تاريخياً أن المسلمين مشوا بعكس اتجاه القرآن ، وأصيبوا بعدوى المناخ الموبوء؛ فحافظوا على أسواق النخاسة ، فكسب السبق الإنساني غيرهم بإعلانه تحرير العبيد، كما فعلت كل من بريطانيا عام 1833، لتخوض أميركا بعدها بثلاثين سنة حرباً أهلية ضروسا كلفت 600 ألف قتيل لإطلاق العبيد. ولم يصبح الأسود مقبول الحقوق حتى الخمسينيات مع ثورة "روزا باركس" و"مارتن لوثر كينج" باعتماد الحركة السلمية والعصيان في خمسينيات القرن العشرين. وقرأت لعلي لوردي، عالم الاجتماع العراقي، أنه أيام العهد العثماني، جاء توجيه من الباب العالي -تحت ضغط بريطاني- بإلغاء الرق، فشن الجمهور مظاهرة صاخبة، أن هذا مخالف للشريعة. وكأن الشريعة جاءت لتكريس العبودية.. وهذا يحكي أن النصوص يمكن أن تستخدم ضد النصوص، وبتعبير الصادق النيهوم "إسلام ضد الإسلام".