كثيراً ما جرى وصف آندريه مانويل لوبيز أوبرادور –الذي اعتبر منذ وقت طويل أفضل المرشحين لتولي رئاسة المكسيك في الفترة المقبلة- بأنه أشد سياسي "يساري" شعبوي مناهض للولايات المتحدة الأميركية. غير أن هذا الوصف يثير سؤالاً مشروعاً عن الاتجاه الذي سيقود إليه "أوبرادور" علاقات بلاده بأميركا, فيما لو كان الفوز من نصيبه بالانتخابات الرئاسية المكسيكية, المتوقع إجراؤها في الثاني من يوليو المقبل. وإن فاز, فسيكون أوبريدور –وهو عمدة سابق لمكسيكو سيتي ومرشح رئاسي عن الحزب "الديمقراطي الثوري"- أول رئيس مكسيكي خلال الثلاثة عقود الماضية, لا يتحدث اللغة الإنجليزية, وأولهم بلا منازع في عدم تلقيه تعليمه الجامعي خارج حدود المكسيك. وفي إعلان له عن اعتزامه مفارقة التقاليد الرئاسية السائدة, قال "أوبرادور" إنه لن يقوم بجولات وزيارات خارجية كثيرة ومتكررة على غرار الرؤساء المكسيكيين السابقين, وإن جهوده ستنصب على الأهداف والقضايا الداخلية, مثل إنشاء البرامج الاجتماعية التي من شأنها أن تفيد الفقراء والمسنين. وفي مثل هذا التصريح ما يشف عن مدى فهم "أوبرادور" للولايات المتحدة الأميركية وسياساتها وشعبها ومؤسساتها. ومن جانبه يؤكد "خوسيه ماريا بيريز جاي" –وهو أحد أقرب مستشاريه- أن أوبرادور قادر على استعادة المصداقية للسياسات الخارجية المكسيكية, وذلك عن طريق العودة إلى المبادئ الراسخة التي تقوم عليها هذه السياسات مثل مبدأ "الاستقلال الذاتي" وسياسة "عدم التدخل" التي دأبت على انتهاجها المكسيك. وفي هذا التأكيد غمز وإشارة ضمنية إلى انغماس الرئيس "فنسنت فوكس" في تزلفه وتقربه من الولايات المتحدة, الأمر الذي دفع به في المقابل, إلى التزام جانب العداء السافر لكوبا والتشدد في انتقاده لسجلها في مضمار حقوق الإنسان. وكما جاء على لسان أوبرادور في تلخيصه للسياسات الخارجية التي ستنتهجها بلاده في ظل رئاسته "فسنترك العالم لحاله كي يتصدى لمشكلاته. وفي المقابل نتوقع منه أن يتركنا لحالنا أيضاً". أما مستشاره "بيريز جاي", فقال من ناحيته إن الحفاظ على علاقات ودية طيبة مع الولايات المتحدة, سيكون حجر الزاوية في سياسات حكومة "أوبرادور" الخارجية. لكن على نقيض هذا تماماً, يرى "جورج جي. كاستنيدا", وزير الخارجية الحالي, أن "أوبرادور" يفتقر إلى أدنى فهم دبلوماسي لما يجب أن تكون عليه السياسات الخارجية المكسيكية. ولذلك فهو يردد الجمل والعبارات التقليدية المحفوظة ذاتها عن "السياسات المبدئية" التي تتطلب "احتراماً دولياً" وحماية لـ"سيادة" المكسيك. ويتوقع السيد "كاستنيدا" أن يعود "أوبرادور" لتبني نهج السياسات الخارجية, الذي اتبعه الرؤساء السابقون المنتمون إلى "يسار الوسط" و"الحزب الثوري المؤسسي". وتتراوح البدائل المتاحة أمامه, بين السياسات "اليسارية المعتدلة" التي اتبعها الرئيس الأسبق "أدولفو لوبيز", الذي حكم المكسيك خلال الفترة 1958-1964, والسياسات التعددية الشعبوية للرئيس لويس إشيفيرا 1970-1976, وصولاً إلى سياسات الرئيس خوسيه بورتيلو 1976-1982. وعلى أية حال, فستتحدد السياسات الخارجية التي سينتهجها "أوبرادور", بالمسار الذي ستتخذه العلاقات الأميركية-المكسيكية. على أن سياسات الهجرة الأميركية, ربما تكون المحدد النهائي لسياسات "أوبرادور" الخارجية. ففيما لو ظلت العلاقات جيدة وودية, على ما كانت عليه في ظل الرئيس "فوكس", فربما اتبع أوبرادور سياسات شبيهة بتلك التي اتبعها سلفه "لوبيز ماتيوس", الذي استطاع التوفيق والموازنة بين حاجتين أساسيتين. فقد أدرك "ماتيوس" مدى اعتماد الاقتصاد الوطني المكسيكي على الاستثمارات الخارجية الأميركية, وعلى المعاملة التفضيلية التي تحظى بها الصادرات المكسيكية والمهاجرون المكسيكيون من قبل الولايات المتحدة. على أنه في الوقت ذاته كان واعياً بالتركة السياسية لحزبه "اليساري", وببرنامجه الثوري الذي يدعوه إلى المحافظة على علاقات بلاده بالجارة كوبا. وبسبب تلك السياسات المعتدلة المتوازنة التي اتبعها "ماتيوس", ظلت المكسيك الدولة الوحيدة في القارة اللاتينية بأسرها, التي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع هافانا, على رغم الضغوط والاعتراضات المستمرة التي مارستها عليها واشنطن. وفي الوقت الذي سيحرص فيه "أوبرادور" على عدم تقويض العلاقات الاقتصادية الوطيدة التي رسختها اتفاقية أميركا الشمالية للتجارة الحرة المبرمة بين كل من أميركا والمكسيك في عام 1994, فإنه بحاجة إلى اقتصاد وطني معافى, يمكنه من تحقيق أجندته الداخلية الطموحة. وتماماً مثلما فعل سلفه "ماتيوس", فسيتعين عليه التمتع بقدر من المرونة السياسية, في ذات الوقت الذي يبرز فيه عضلاته "اليسارية" الثورية من حين لآخر. وليس من طريق أسهل لتحقيق هذا من احتضانه لفيدل كاسترو, الزعيم الروحي للحركة الثورية اللاتينية. ولهذه الأسباب مجتمعة, فربما كانت السياسة الخارجية لسلفه ماتيوس, النموذج الأفضل الذي يمكنه اتباعه. لكن في المقابل, وفيما لو توترت العلاقات بين أميركا والمكسيك, وخاصة إذا شددت أميركا قوانين وإجراءات هجرتها, وازدادت احتمالات تعرض المهاجرين المكسيك غير الشرعيين, لإطلاق النار عليهم من قبل قوات حراسة الحدود الأميركية, فربما كان الأنسب لـ"أوبرادور" انتهاج سياسة التضامن اللاتيني التي تبناها قبله كل من الرئيسين إشيفيرا ولوبيز بورتيلو. والفرضية التي تقوم عليها هذه السياسة هي أنه كلما توحدت دول أميركا اللاتينية حول القضايا المشتركة بينها, كلما قوي موقفها في التعامل مع "الأخ الأكبر" في الشمال. وفيما نذكر فقد أثار إشيفيرا غضب الولايات المتحدة على بلاده في حقبة السبعينيات, بجملة من المواقف والسياسات, منها تطلع المكسيك إلى لعب دور قيادي في منطقة أميركا اللاتينية, وانتقاداته الحادة لما أسماه بـ"النزعة التوسعية" الأميركية, ودعمها للأنظمة العسكرية في القارة. إلى ذلك شجب "إشيفيرا" الصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية داخل الأمم المتحدة, مقابل سماحه لمنظمة التحرير الفلسطينية بافتتاح مكتب لها في المكسيك. وليس ذلك فحسب, بل لقد ساند "إشيفيرا" علناً حركة "ساندينستا" في نيكاراجوا خلال عقد الثمانينيات, فضلاً عن رعايته لمجموعة "كونتادورا" التي تأسست أصلاً لمناهضة ما أسمته بالتدخل العسكري الأميركي في منطقة أميركا الوسطى, عبر الوسائل الدبلوماسية السلمية. ولما كانت اتفاقية أميركا الشمالية للتجارة الحرة, قد عمقت ووسعت العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين أميركا والمكسيك, على نحو لا يقاس بأية دولة أخرى من دول المنطقة, فإنه لم يعد في وسع أي رئيس أميركي أو مكسيكي, أن يبدل طبيعة هذه العلاقات أو مسارها. وهذا هو المتوقع أن يسير عليه أوبرادور, لحظة توليه دفة الحكم في بلاده. سيرجيو مونوز محرر سابق في صفحات الرأي بصحيفة "لوس أنجلوس تايمز" وكاتب عمود بالأسبانية في أكثر من 20 صحيفة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"