عندما قام الرئيس جورج بوش ومساعدوه بغزو العراق، أعلنوا أن الهدف من وراء ذلك لا يقتصر على إيجاد "أسلحة الدمار الشامل" التي ادعوا وجودها هناك وتدميرها فحسب، وإنما أيضاً إسقاط صدام حسين وجلب إدارة جيدة للشأن العام إلى سكان العراق. غير أنه من الواضح اليوم، وبعد نحو ثلاث سنوات على ذلك، أن جهود تحقيق هذا الهدف الأخير قد منيت بالفشل. (ثم إنه لم يظهر لأسلحة الدمار الشامل المزعومة أي أثر أيضاً). والواقع أن مشروع بوش المتمثل في إدارة جيدة في العراق باء بفشل ذريع إلى درجة أنه لا يمكن اليوم إعادة إحيائه. وحتى التطور الأخير الذي وصفه بالنجاح السياسي–تشكيل حكومة "وحدة وطنية" بعد أسابيع طويلة من المفاوضات- يبدو هشاً وضعيفاً. ثم إنه حتى في حال شغل جميع وزارات الحكومة، إلا أن ذلك لن يترجم إلى توفير الخدمات الأساسية (مثل الأمن العمومي) للمواطنين. لقد كتب الصحفي "نيل روزن" التي يتحدث العربية، والذي قضى عدة أشهر في العراق منذ 2003، في صحيفة "واشنطن بوست" بعد زيارة قام بها مؤخراً إلى هناك: "إن الأميركيين أصبحوا اليوم مليشيا من بين أخريات وسط فوضى عارمة". وبالتالي، يجوز التساؤل: ما جدوى الاحتفاظ بالقوات الأميركية وقوات التحالف في البلاد؟ وهل لدينا أي أساس عقلاني لنتوقع أن هذا الانتشار يمكنه أن يساهم في تحسن الأوضاع بالنسبة للعراقيين؟ الواقع أنه بناء على سجلات جيوش الاحتلال على مدى القرن الماضي، واستناداً إلى سجلات الاحتلال في العراق على مدى السنوات الثلاث الماضية، يمكنني أن أجيب بالنفي. ذلك أن دوامة العنف التي يشهدها العراق، ومشاعر معاداة الولايات المتحدة التي ساعد الاحتلال على تغذيتها –هناك وفي أوساط المسلمين وغير المسلمين عبر العالم- يعني أنه لا توجد اليوم طريقة لإعادة تنظيم حضور الاحتلال. وبالتالي، فعلى واشنطن إيجاد طريقة فعالة وسريعة للانسحاب قبل أن تزداد الأمور سوءاً في العراق (وعلينا ألا ننسى أنه يمكنها تسوء بشكل كبير). صحيح أن الانسحاب ستكون له عواقب وتداعيات سياسية، بعضها سلبي، في العراق كما في المنطقة والعالم برمته. إلا أن عواقب البقاء يمكن الجزم بأنها جميعها سلبية، ولا أدل على ذلك من سجل السنوات الثلاث الماضية، حيث شهد العراق خلال تلك الفترة انتشار مليشيات قوية عبر جميع أرجاء البلاد، وانتهاء الخدمات الحيوية إلى مستنقع الفساد الدائم، وتركز الإرهابيين في بعض الأقاليم. أما آثار ذلك على ما وراء العراق، فقد تسبب سلوك الولايات المتحدة خلال الاحتلال في فقدان صداقة العديد من شعوب العالم واحترامها، فيما ازدادت إيران وخصوم آخرون لواشنطن قوة. علاوة على ذلك، صرف الانشغال بالعراق الولايات المتحدة وحلفاءها عن إعادة إعمار أفغانستان. ونتيجة لذلك، نشطت مجموعات مقاتلة موالية لـ"طالبان" بأعداد تبعث على القلق. والواقع أنه مع مرور كل شهر تقضيه القوات الأميركية في العراق، ستتضاعف هذه التأثيرات. كما ستزداد حظوظ وقوع حادث مماثل لـ"حديثة"، أو جرائم حرب أفظع أو على نطاق أكبر. كما ستزداد العمليات المناوئة للولايات المتحدة، على غرار القصف الذي استهدف مقر تمركز القوات الأميركية في بيروت. والواقع أنه لا يوجد أميركي واحد يرغب في حدوث هذا الأمر، ولذلك باتت أعداد متزايدة من الناس تدعو اليوم إلى انسحاب أميركي عاجل وشامل من العراق. كيف يمكن القيام بذلك؟ قد تحاول الولايات المتحدة القيام بذلك بشكل أحادي الجانب، من دون التفاوض بشأن صيغ الانسحاب مع أحد. تلك كانت طريقة الإسرائيليين في سحب قواتهم من لبنان عام 2000 ومن قطاع غزة العام الماضي. غير أن تلك الانسحابات الإسرائيلية كانت أسهل بكثير، ذلك أن القوات المنسحبة يمكنها أن تقطع بضعة كيلومترات فقط لعبور الحدود، وبالتالي العودة إلى إسرائيل. أما انسحاب القوات الأميركية من العراق، فيتطلب جهداً لوجيستياً كبيراً يشبه في صعوبته وتعقيده الجهد الذي تطلبه إرسال القوات إلى هناك. والأكيد أن أي انسحاب أميركي منظم سيتطلب تعاون دول أخرى –ومنها إيران التي لديها شبكات قوية من الحلفاء الذين ينشطون عبر أرجاء العراق. (ومن الجيد إذن أن بوش أشار إلى استعداده للحديث مع إيران). غير أن انسحاباً منظماً للقوات الأميركية وقوات التحالف من العراق يتطلب أيضاً تعاون العديد من القوى الأخرى. وتظهر هذه الحقيقة، إضافة إلى الحاجة إلى وضع آلية دولية لمساعدة العراقيين على حل مشاكل الإدارة الصعبة جداً، وأهمية اضطلاع الأمم المتحدة بدور ما في بلاد الرافدين. فالأمر ليس موضوع حلف شمال الأطلسي، كما أنه ليس موضوع "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وإنما هو تحدٍّ سياسي بالنسبة للمجتمع الدولي بأسره. هل يبدو كل هذا قفزة كبيرة لا يمكن لإدارة بوش القيام بها؟ الواقع أنها قد تكون كذلك –غير أن التكلفة الكبيرة والأخطار الإضافية للاحتفاظ بالقوات الأميركية في العراق ستواصل صعودها مع مرور كل شهر تقضيه هناك. لقد دخل بوش في رهان جيوسياسي كبير عندما غزا العراق في مارس 2003. أما اليوم، فمن الواضح جداً أنه "خسر" ذلك الرهان. وعليه، فمن الأفضل وضع حد للخسارات التي تتكبدها البلاد اليوم، والتركيز على إعادة نسج علاقة مبنية على الاحترام مع بقية العالم، بدلاً من الجلوس مكتوفي الأيدي في العراق بانتظار ما لن يكون سوى تدهور أكبر للأوضاع هناك. هيلينا كوبان كاتبة ومحللة سياسية بريطانية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"