هنا الدولة "الناصرية" تنهض ثانية ويصطف أمراؤها لاستقبال المؤرخ الكبير. ستة قرون على وفاته والمدينة التي غادرها مشروع طفل مع والديه إلى تونس تعلن حنيناً باذخاً إليه. تفتح له بواباتها وقصورها وكاتدرائياتها. بطرسها الأكبر, طاغية إشبيلية, يرسل وزراءه وحاشيته لاستقبال الحبر الثقافي الأكبر: يصطفون على مدخل القصر المفخم ويرافقون ابن خلدون إلى معرضه المنتشر في طوابق القصر وردهاته. يصافح في الردهة الأولى "خوان مانويل" الأندلسي وحبيبته حليمة التونسية زوجين ينثران الابتسام كما الورد على القادمين, احتضنا المتوسط على أريكة الشوق لمصالحة كبرى. ابن خلدون يحادث "خوان" تارة وحليمة تارة أخرى. يقولان له نحن في مؤسسة الإرث الأندلسي, وفي مؤسسة الحضارات الثلاث, وفي مؤسسة تحالف الحضارات نتشرف بأن ندعوك بعد غيابك الطويل عنا. نريد أن نقول لك أفردْ عباءتك على مياه البحر الواصل بين الجزيرة الخضراء وتونس الخضراء وتطوان الخضراء, ولملمْ ما سال من الدم. أعد لهذا البحر بياضه ونقاءه الذي ربما ما كان يوماً, لكن ظل فينا حلماً نازفاً. فشلنا يا عبدالرحمن في أن نغلب سفن التجارة على أساطيل الحرب. ذوت أسواق جنوي والبندقية, وتعاظمت أساطيل باريس ولندن. نريد لسفن الحرب أن تغرق, نريد لسفن الود أن تبحر من جديد. يتهادى المعلم الأكبر داخلاً بوابة القصر, مطرقاً لخوان وحليمة: اليوم يا ابن خلدون نشرنا صفحات مقدماتك, ونسخنا منها بالحبر الأخضر على ضفتي المتوسط كل العبر لعل فينا من يعتبر. وشرعنا نوافذ ديوان المبتدأ والخبر على طول أيام العرب والعجم والبربر, وغصنا فيما كتبت عمن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. كنا نبحث عن حاضرنا في ماضينا. نبحث عن ردم لجرح طال في هضبات اخضرارنا. وها قد نثرنا على جدران القصر، الذي جئته سفيراً يوم كنت تاجاً للمتوسط، كل حكمتك وفلسفتك وتاريخك. رسمنا صورك كما تخيلناها وأنت تجوب المشرق والمغرب: من إشبيلية إلى تونس إلى الجزائر إلى المغرب إلى غرناطة إلى مصر إلى دمشق إلى القدس. نتشبث بك جسراً يمد أذرعه وجسده على صفحة الماء. يريح رأسه على صخرة جبل طارق, فارداً ذراعية بين شط الشمال وشط الجنوب, زاحفاً بقدم إلى مرفأ مصري وآخر يوناني, وهاتفاً بقوافل الحرف أن أشرعوا كتبكم شمالاً وجنوباً. سدوا الأفق والماء والهواء على قوافل الحرب. يدلف ابن خلدون ردهة القصر ثم فناءه الداخلي فيجد مستقبليه من جنوب البحر فاطمة المرنيسي وبنسالم حميش ومحمد الطالبي ومحمود الذوادي ومحمد بنعبود وعبدالسلام شدادي ومنيرة شحرور وحسنة طرابلسي ومحمد الطوير ويوسف الطويل, يرسمون قوساً من لبنان وحتى المغرب, وفيهم مصر وتونس وليبيا والجزائر. يصافحهم واحداً واحداً, يتسامر معهم ويتذكر معهم أي المدن مر بها ومروا هم بها. تشاغب عليه فاطمة المرنيسي وتقول له يجب أن تقرأ ما كتبت عنك: أنت سندباد المتوسط لم تنم على خشية أن يتغول الخوف على المعرفة. قفزت إلى كل الضفاف باحثاً عن المعرفة, وناثراً لها. هنا أندلس الشام وأندلس المغرب وأندلس الأندلس يتلاقون جميعاً. شواهد القبور في المعرض تحكي جزءا من الحكاية. ما الذي جاء بكم يا ملوك بني الأحمر. يا قوم أمية ودمشق أي سهاد العشق والجنون قادكم إلى ما وراء البحر وجاء بكم إلى هنا. إلى هنا حيث بيدرو مارتينز مونتافيز, ورفائيل بينادو سانتيلا, وفرانشيسكو فيدال كاسترو, ورافائيل فالانسيا, وخوان كاستيلا برازاليس, وخوليو نافارو... وكارمن. كارمن الأندلسية الحسن والكمال ذات الشعر الأسود والقامة الممشوقة والنائبة المسيسة التي توزع بسمتها على السامعين وتقول لهم أندلسية أنا, أنتمي اليوم إلى أرض الحرية. تعالوا معي وراء ابن خلدون نتخفف من قيود القمع والحكام, نكسر الأصفاد ونغدو أحراراً من العبودية والحرب. يصافح ابن خلدون إقبال القادم من نيويورك. إقبال يتحدث بهم العالم وأممه المتحدة, يبحث مع ابن خلدون في قاعة السفراء كيف يمكن أن تتحالف الحضارات عوض أن تتصادم. إقبال العجوز الحكيم يستمع لابن خلدون بكل إنصات ويكتب ملاحظات. سيسافر غداً إلى ما وراء الأطلسي حيث صارت سعة الماء تتغلب على قدرة ابن خلدون وجسده وجسوره. ابن خلدون يغرق إن حاول فرد جناحيه وجسده على صفحة المحيط. إقبال يريد صنع ما يراه الناس هذا هو معرضك يا ابن خلدون, وهو كما ترى فيه كل شيء عنك ما خلا التعريف بك: من أنت؟ أتونسي, أمغربي, أإشبيليي, أمصري, أأندلسي؟ أسياسي, أمؤرخ, أمنجم, أباحث عن سلطة أم فاقد لها, أفقيه أم حاجب, أي هذا أنت؟ هو المتوسط وسيد المتوسط أيها السائل, يأتي الجواب من شواهد القبور. يأتي من الأسماء العربية واللاتينية. يأتي من طقطقة خشب الموانئ تحت أقدام المرتحل دوماً. يأتي الجواب من أطياف الأمس وهمهمات المارين في طرقات أشبيلية اليوم. أشبيلية تزهو بعرس ابن خلدون طيلة شهور أربعة. تحتضنه وتلتف تحت عباءته ليحضنها. تعرض عنه في معرضها الكبير كل ما دار وصار حول المؤرخ الكبير. ترصد ما كتب وما كتب عنه, وتعقد له المؤتمر والندوة. فوق عمامته تأتي كارمن وتضع أكليل ورد أندلسي فيه حب واعتذار. فيه حب المدينة لابنها العاشق والمعشوق. وفيه اعتذار حيي أن قد طال انتظار الإكليل. أسبانيا اليوم تنسج إكليل ورد لابن خلدون على مشاعل زيت أعاد إنارة الأندلس في تاريخ البلد المحتار بالتاريخ. إكليل الورد يقول لا حيرة بعد اليوم, قد عدنا وتصالحنا ونريد عباءة ابن خلدون ترفل على ضفاف الوادي الكبير, نهر المدينة, ومائها الذي حمل سفن الأمس الأندلسي وكانت تصدح عليها موسيقى زرياب وأشعار بنت المستكفي.