لا شك أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يتوق إلى رؤية الفلسطينيين وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع في شهر يوليو المقبل للمشاركة في الاستفتاء والبت في مسألة قيام دولة فلسطينية تعيش في سلام إلى جانب إسرائيل. وهي رغبة تستحق اهتمام إسرائيل، كما جميع القوى الأخرى المعنية بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإحلال السلام الدائم والعادل في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص اهتمام إدارة الرئيس بوش التي يبدو أنها تراجعت مع الأسف عن إصرارها السابق على حل متفاوض حوله لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. والجدير بالذكر هنا أن اقتراح محمود عباس إجراء استفتاء حول وثيقة الأسرى تجد لها قبولاً واسعاً لدى شريحة عريضة من الشعب الفلسطيني. هذه الوثيقة التي يرجع تاريخ ظهورها إلى شهر أبريل الماضي عندما قامت وجوه بارزة من حركة "حماس"، ورموز من حركة "فتح"، فضلا عن قياديين ينتمون إلى فصائل فلسطينية مختلفة يقبعون في السجون الإسرائيلية بتوقيع وثيقة تقدمية أصبحت تعرف فيما بعد بوثيقة الأسرى. وتدعو الوثيقة إلى قيام دولة فلسطينية على حدود ما قبل 67، وجعل القدس الشرقية عاصمة لها. لكن النبرة الجديدة والتقدمية التي انطوت عليها الوثيقة لم تثنِ حكومة أولمرت عن تكرير كلامها السابق عن غياب شريك فلسطيني. كما أن الإشارة الإيجابية لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بشأن محمود عباس في خطابه الذي ألقاه أمام الكونجرس الأميركي لم تحل دون نعته لاحقا "بالضعيف" و"العاجز" عن التفاوض للوصول إلى السلام. وبحسب الخطة التي وضعها أولمرت تعتزم إسرائيل الانسحاب من بعض مناطق الضفة الغربية، فضلاً عن ترسيم أحادي لحدود الدولة اليهودية بعد ضم المستوطنات الكبرى واستكمال بناء الجدار العازل. وبالطبع ينظر الفلسطينيون والعرب إلى هذه الخطة على أنها مصادرة أخرى للأراضي العربية والسطو عليها. ويبدو أن الهدف الأساسي للرئيس محمود عباس من وراء تنظيم الاستفتاء هو ضمان التأييد الشعبي للاعتراف بإسرائيل القائمة فعلا وإنهاء العنف. بيد أن "حماس" التي نجحت في الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل طيلة الأربعة عشر شهراً الماضية، رفضت رسمياً الاعتراف بإسرائيل، أو نبذ العنف بشكل نهائي. ويتوقع المحللون أن تؤدي مساندة نتائج الاستفتاء لوثيقة الأسرى إلى إرغام "حماس"، التي تتطلع إلى إقامة دولة إسلامية تمتد على كامل أرض فلسطين التاريخية، على التخلي عن نهجها وإعطاء فرصة لحل الدولتين الذي يحظى بشعبية كبيرة لدى الفلسطينيين. وسيفضي الاستفتاء في حال نجاحه إلى وقف الحصار الدولي المضروب على حكومة "حماس" الذي يضع مجمل الشعب الفلسطيني في ضائقة اقتصادية خانقة تزيد من تأزيم الأوضاع المتردية. ويشار إلى أن محمود عباس تعهد أثناء جلسات الحوار الوطني الذي جمع بين حركتي "حماس" و"فتح" بتنظيم استفتاء شعبي إذا أصرت "حماس" على رفضها صيغة الدولتين مع نهاية الأسبوع الجاري. وكرد على المهلة التي حددها رئيس السلطة الفلسطينية سارع قادة "حماس" إلى التهديد بمقاطعة الاستفتاء. ويذكر أن الصيغة نفسها التي جاءت بها وثيقة الأسرى وأثارت كل هذا الجدل لا تحمل أي جديد. فهي تعكس الرؤية نفسها التي عبرت عنها حركة "فتح" سابقاً انطلاقاً من مقررات منظمة التحرير الفلسطينية. أما "حماس" التي نشأت خارج منظمة التحرير فهي تتحفظ على موقف المنظمة المؤيد لقيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل والرافض لأسلوب العنف الذي تبنته المنظمة للتفاوض مع الولايات المتحدة والحصول على دعمها أثناء التوقيع على اتفاق أوسلو سنة 1993. واليوم يحاول محمود عباس وبعض المسؤولين البارزين في منظمة التحرير الفلسطينية ضم "حماس" إلى حضن المنظمة بهدف التخفيف من مواقفها الراديكالية وتحييدها. ولا ننسى أن طرح عباس وثيقة الأسرى للاستفتاء إنما يندرج في سياق الصراع بين "فتح" و"حماس" منذ فوز هذه الأخيرة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية ورغبة عباس الانتصار إلى حركته وأجندتها السياسية. فرغم صعود "حماس" إلى السلطة مازالت تسيطر "فتح" على 50 ألفا من قوات الأمن الذين خرجوا مؤخراً إلى جانب موظفي الحكومة في مظاهرات احتجاجاً على عدم تلقيهم رواتبهم. واستمر الصراع بين الطرفين ليأخذ منحى جديداً عندما أقدم وزير الداخلية في الحكومة الفلسطينية في شهر مايو المنصرم على تشكيل قوات أمن خاصة قوامها ثلاثة آلاف رجل لمواجهة القوات التي تسيطر عليها "فتح". والواقع أن قوات "حماس" لم تكن الوحيدة الناشطة في الشارع الفلسطيني بعدما ظهرت ميليشيات أخرى عقب الانسحاب الأحادي لإسرائيل من قطاع غزة في السنة الماضية. وكأن الانفلات الأمني لا يكفي في ظل الأوضاع الفلسطينية المتدهورة وأضيف الحصار الدولي الذي تشير الإحصاءات الدولية إلى مدى تعميقه للأزمة وتأجيجها. فقد أفادت منظمة العمل الدولية أنه من بين عشرة فلسطينيين يعيش أربعة منهم تحت خط الفقر الرسمي والمحدد بـ 2.10 دولار يومياً، كما وصل معدل البطالة في الأراضي الفلسطينية حسب المنظمة إلى 40.7%. أما مدير برنامج الغذاء العالمي فقد صرح بعدما رأى الأطفال الفلسطينيين يقلبون القمامة بحثاً عن الطعام بأن مليوني فلسطيني، أغلبهم تحت سن 18 سنة، يشهدون "انعداماً في الأمن الغذائي". وفي ظل الوضع المتأزم يحتاج الفلسطينيون وبشكل عاجل حكومة وحدة وطنية تكون قادرة على بلورة سياسية واقعية تجاه إسرائيل، واستعادة الدعم المالي الدولي الضروري لاستمرار الحكومة في تقديم خدماتها إلى الشعب الفلسطيني. ومع أن "فتح" رفضت مبادرة "حماس" المشاركة في حكومة وحدة وطنية، إلا أن الأمل مازال قائماً في انبثاق حكومة تضم كافة أطياف اللون الفلسطيني إذا ما نجح الاستفتاء. ـــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"