باتت الأمم المتحدة تنازع سكراتها الأخيرة على فراش الموت الآن. وعلى الرغم من أنها ظلت مهددة بهذا المصير دائماً, إلا أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى بفعل تأثير السفير الأميركي جون بولتون, الذي يبدي حماساً واستعداداً لفصل جهاز التنفس عنها. فعلى إثر حديث ألقاه أحد كبار المسؤولين بسكرتارية الأمم المتحدة خلال هذا الأسبوع, دعا فيه واشنطن إلى المزيد من التعاون الملتزم واللاعدواني مع المنظمة, استشاط المندوب الأميركي لدى المنظمة غضباً, وتنبأ بأن تكون لذلك الحديث عواقب وخيمة على الأمم المتحدة, ما لم يعتذر أمينها العام علناً وشخصياً عما قيل. غير أن كوفي عنان لم يفعل بالطبع. وليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها المنظمة تهديداً من هذا النوع. فقد سبق لها أن واجهت لحظة شبيهة في أواخر عقد التسعينيات. حينها تعهد عدد من أعضاء الكونجرس المحافظين بقيادة السيناتور "جيسي هيلمز", بتجفيف الموارد المالية عنها, ما لم تستجب لنداء يدعوها إلى تطبيق قائمة طويلة من الإصلاحات داخلها. وفي سبتمبر من عام 2002 قال الرئيس بوش إن المنظمة ستفقد معناها, فيما لو عجزت عن الانضمام إلى الولايات المتحدة في سعيها لتجريد العراق من أسلحته النووية. وبما أن تهديدات كهذه طالت المنظمة أكثر من مرة, بما فيها تهديد الرئيس الأميركي نفسه, فإن مما يستدعي العجب, استمرارها وبقاءها إلى اليوم! أما الرد الموجز والمباشر على هذا التعجب, فهو أنه ليس بوسع الولايات المتحدة الاستغناء عنها. وكنت قد أمضيت الفترة الممتدة بين يونيو 2004 وسبتمبر 2005 خارج المنظمة منشغلاً بتأليف كتاب عنها. وعندها تساءلت كم من المهام والأعمال تم إنجازها بالتعاون بين واشنطن والمنظمة, وكم هما اعتادتا على فعل ذلك بشكل دوري روتيني؟ من بين تلك المهام مثلاً النزاع الذي شهدته منطقة القرن الإفريقي. فما أن بدأت ملامحه تلوح في الأفق, حتى برز دور وزارة الخارجية الأميركية, تأسيساً على الاعتقاد بأنه في وسع الولايات المتحدة وحدها أن تخاطب الأثيوبيين والإريتريين بما يسهم في إطفاء النيران فيما بينهما. غير أن الذي حدث هو أن واشنطن لم تستطع إنجاز تلك الخطوة دون دعم المنظمة, تماماً مثلما عجزت المنظمة دون الدعم الأميركي لجهودها ووساطتها السلمية. وفي ديسمبر من عام 2004 تصاعد هجوم دوائر اليمين الأميركي على الأمين العام للمنظمة, بسبب الفضائح التي أحاطت ببرنامج النفط مقابل الغذاء في عراق صدام حسين. لكن ومن الجانب الآخر, فقد التقت كوندوليزا رايس –مستشارة الأمن القومي وقتئذ- بكوفي عنان وأفاضت له في الشكر والثناء على دور منظمته في عملية حفظ السلام في هايتي, إضافة إلى دورها في تنظيم الانتخابات العراقية. وفي كلتا الحالتين, ما كان ممكناً للبيت الأبيض أن يحقق بمفرده النتائج التي حققتها المنظمة الدولية. غير أن ذلك على وجه التحديد, هو ما كشف عنه حديث "مارك مالوك براون", نائب الأمين العام للمنظمة, وهو الحديث الذي أثار غضب "جون بولتون", ودعاه إلى إطلاق التهديدات المشار إليها آنفاً. ولعل أهم ما كشف عنه براون مما رأى فيه سوءاً في علاقة واشنطن بالمنظمة, هو اتهامه للبيت الأبيض –ليس في ظل إدارة بوش وحدها وإنما بوجه عام- بممارسة ما أسماه بـ"دبلوماسية المواربة والخفاء" مع المنظمة الدولية. ومن رأيه أن هذه الممارسة هي التي حجبت باستمرار الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة, عن وعي الشعب الأميركي. وقال إن اعتراف البيت الأبيض باعتماده على المنظمة والمؤسسات الدولية في حل الكثير من الأزمات والمواقف العصيبة, ليس سياسة مستحبة مطلقاً, على الصعيد الداخلي الأميركي. وكم يبدو هذا التحليل منطقياً بالنسبة لي. فما الذي يفسر كل هذا الشكر الذي أفاضت به كوندوليزا رايس لكوفي عنان –وهو ما أشرنا إليه أعلاه- على انفراد وفي الخفاء, في حين ظلت وظيفته بالمنظمة مهددة وفي كف عفريت اليمين الأميركي! وكما لاحظ براون في حديثه ذاك, فقد ظلت المنظمة الصبي المعاقب والمزجور دائماً في كل ما تنشره عنها شبكة "فوكس نيوز" وغيرها من مؤسسات إعلامية تلوك ألسنتها سيرة الأمم المتحدة بالسوء ليل نهار! أما هذه المرة, فقد شمل النزاع بين واشنطن والمنظمة الدولية, الإصلاحات التي نادى بها الأمين العام كوفي عنان نفسه داخل منظمته. وربما تبادر للبعض أن جون بولتون ربما كان يمزح فيما قاله, وأنه كان يلوح مجرد تلويح بعصا التهديد الأميركي. ولكن الحقيقة أنه أعلن يوم الخميس الماضي, استعداد بلاده لتجميد جزء من الأموال المستحقة للمنظمة في الخزانة الأميركية. فهل بلغت الولايات المتحدة كل هذا الحد من الغضب والانفعال, لمجرد اجتراء أحد مسؤوليها على انتقاد البيت الأبيض بسبب أدائه الدبلوماسي وعلاقته بالمنظمة؟! وفيما يحسب لكوندوليزا رايس–ي وم أن كانت مستشارة للأمن القومي- تدخلها وإصلاحها لـ"عرجات" زميلها وممثل بلادها داخل المنظمة الدولية. واليوم وهي في قمة الجهاز الدبلوماسي الأميركي, فهل لها أن تتدخل لتصحيح هذه "العرجة" الأخيرة؟ إن فعلت فإن ذلك سوف يحسب لها في ميزان اعتدالها وحكمتها. أما إن صمتت ودعت التهديدات تأخذ مجرى الفعل, فليس أمامنا من خيار آخر سوى تصديق كل الاتهامات التي كالها براون للبيت الأبيض فيما يتصل بأدائه الدبلوماسي. ـــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"