من جديد، بعد مضي سنوات عجاف خمس على رحيلك، نتساءل: أين أنت يا فيصل، أين أنت؟! كيف تتركنا هكذا بدون إنذار؟! بدون وداع؟! وكيف غادرت وأنت الصديق الصدوق الذي يؤذي نفسه قبل أن يؤذي الأصدقاء بمثل هذا الرحيل؟! كيف تذهب هكذا بدون استئذان وأنت رمز للأصول والتهذيب والحياء؟! كيف ترحل، وأنت "خارج" القدس، يا أيها المقدسي الأبدي المتجذر فيها، المنافح عنها مذ كنت؟! كيف ترحل هكذا والوطن... ونحن... بحاجة ماسة إليك أكثر من أي وقت مضى؟! في كل الأحوال كنت ستموت! ليس فقط لأن "الموت حق" وأنت –يا أيها الغالي- تحب الحق. وليس فقط لأن "الشهيد حبيب الله"... وأنت حبيبه. بل لأن وحوش الهم والغم، والكدر والقهر، المتكالبة على افتراسنا يومياً، كانت ستفترسك يا أيها المناضل المرهف ويا أيها الإنسان الحساس! ولولا أنك قضيت قبل خمس سنوات، فإنك كنت ستموت –لا محالة- لو كنت عشت لترى ما نرى... وما لا نرى! ففي هذا الزمن الرديء، يريدون منا أن نصدّق، لا بل أن نقول، إن الفدائي أو المقاوم... إرهابي! وفي هذا الزمن المهترئ، يريدون منا أن نقبل، لا بل أن نعترف، بالاحتلال! وفي هذا الزمن القبيح، يريدون منا أن نرضى، لا بل أن نستمتع، بالإذلال! وفي هذا الزمن المجنون، يريدون منا أن نبتلع، لا بل أن نستمرئ الخنوع! وفي هذا الزمن المريض، يريدون منا –ونحن الذين قاتلنا وقتلنا من أجل الإصلاح الفلسطيني العربي الحق- أن نسارع إلى رفع، لا بل تقبيل رايات، "الإصلاح الأميركي/ الصهيوني"! وفي هذا الزمن الفاجر، يريدون منا أن نتهافت على السلام، بحيث يتقزم مطلب "السلام العادل" إلى الاستسلام الإسرائيلي أو الصهيوني أو المتصهين ... لا فرق! منذئذ، ومع شروق شمس كل يوم "جمعة" أتذكرك بشكل حميمي متدفق. وكنت اشتقت إليك، يا أمير القدس، ذات جمعة أليمة حزينة! فقد انتظرتك طويلاً في "بيت الشرق"، قلعة إمارتك المقدسية، وأنت مسجًّى على ظهرك ومحمولاً على أكف محبيك، إذ احتاج موكب "جنازتك" المزدحم بالجماهير خمس ساعات طوال... طوال... كي يقطع مسافة العشرين كيلومتراً من رام الله... إلى القدس! كم اشتقت إليك في ذلك اليوم الذي انقطع فيه التواصل المستمر معك، بعد "عِشرة" دامت على مدى واحد وأربعين عاماً سواء في حركة القوميين العرب، أو في اتحاد طلاب فلسطين، أو في منظمة التحرير الفلسطينية، أو في سجن الرملة، أو في اللجنة التنفيذية للمنظمة. وكم تمنيت –يا أيها الحبيب- لو كنت بيننا لترى مظاهر الوفاء لك من أهل القدس، بل من أهل فلسطين التاريخية والشتات في المخيمات. ثم تمنيت لو أنك رأيت وفاء الأهل على امتداد الأمتين العربية والإسلامية، بل وفاء الشرفاء في كل مكان! يومها –هل تعلم أخي الحبيب فيصل- أن القدس تحررت ولو لبضع ساعات! فأمام طوفان الحزن الجماهيري الغاضب، وتحت ضغط جماهير "الغضب الساطع"، انسحب المحتلون –جيشاً وشرطة ومستعمرين- وزحفت موجات متلاحقة من البشر، مخترقة شوارع وأزقة القدس، خارج وداخل الأسوار العتيقة. "وافيصلاه"، "وافيصلاه" –صرخة انطلقت ملء أفواه الصبايا والشباب والنساء والرجال والكهول الذين تيتموا برحيلك! "وافيصلاه" تلك قد لامست أسماعهم ولامست أسماع نخوتك، فهل –بعد أن قضيت- تلامس صرخة القدس أسماع أي "معتصم"؟! في هذه الأثناء، وبانتظار ظهور أي "معتصم" من أي رقعة من رقاع (أم يجب أن نقول: من رُقع؟!!) الوطن العربي الكبير والعالم الإسلامي الأكبر، يتوجب علينا التنبيه إلى معنيين بارزين ينطوي عليهما اغتصاب "بيت الشرق" من قبل حكومة شارون الأولى. أما المعنى الأول فقد تجسد بكون "بيت الشرق" أصبح الرمز السياسي الأظهر للسيادة العربية الفلسطينية على القدس، تماماً مثلما أن المسجد الأقصى من جهة، وكنيسة القيامة من جهة ثانية، هما الرمزان الدينيان الأظهر على "العهدة العمرية". وفي هذا السياق، كان "الإقدام" الشاروني على إعادة احتلال "بيت الشرق" محاولة لاستئصال ذلك المقر/ الرمز السيادي.. من مجموع أي كيان سيادي فلسطيني قادم. وأما المعنى الثاني فقصد منه اختبار رد الفعل الإقليمي العربي، والإسلامي الأوسع، بل والدولي الأكثر اتساعاً، وبخاصة وأن بيت الشرق حتى قبل اتفاق "أوسلو"، بات بفضل "فيصل الحسيني" وصحبه ورفاقه بيتاً للعروبة والإسلام ومجمل الشرق، مثلما أصبح أيضاً عنواناً لمنظمة التحرير/ لدولة فلسطين. فيومها، من أسف شديد سقطت كل تلك الأطراف في "امتحان رد الفعل"... كما سقطت في كل الامتحانات المشابهة... منذ رحيلك يا فيصل! وهذا –أخي الحبيب- ما يقتلك ألف مرة يومياً... ويقتلنا! أتذكر؟ أتذكر كيف أنك بعد اتفاق أوسلو، هتفت: "ادخلوا بطن الحصان"! ذلكم كان نداءك... فدخلنا! قلت لنا "فيه بعض العطب" لكن ادخلوه! ودخلنا فوجدنا فيه ما قد يحبط أياً منا... سواك! ويوم أخبرتك لاحقاً بما وجدنا، لم نختلف على ما وجدنا، بل حزنَّا كثيراً... ثم ضحكنا يومها طويلاً من ألم كثير! "ذلكم هو قدرنا"، قلت... وصدَّقنا! ثم أضفت "المعركة مستمرة"! وصدّقنا! وقبل أيام، في ذكرى رحيلك الخامسة، زرتك –يا أمير القدس- كما أفعل كلما "تفضلت" عليَّ قوات الاحتلال بتصريح يمكنني من "زيارة" القدس! طرقت باب عنوانك الجديد في باحة الحرم القدسي الشريف! انطلقت باتجاهك من قرب بيت جدّي الملاصق لـ"بيت الشرق"، بيت جميع الفلسطينيين، الذي كان على مدى سنوات طوال عنوانك الشخصي... وعنواننا! قرأت الفاتحة على روحك الطاهرة وعن أرواح "جيرانك" ممن سبقوك إلى جنة الخلد من أمثال والدك عبدالقادر الحسيني، وجدك موسى الحسيني، وعبدالحميد شومان، وأحمد حلمي عبدالباقي وغيرهم كثيرين ممن أضاءوا مسيرة الكفاح والبناء المتصلة حبالها من جيل السابقين إلى جيل اللاحقين. "ذهب الذين تحبهم... ذهبوا"! ذهب الذين نحبهم... ذهبوا! ويذهب الباقون الذين ينتظرون وما بدّلوا –على نهجك- تبديلاً. تذهب عنا... وتبقى معنا يا خلاصة الذهب الخالص... و"الناس معادن"! ولأنك كذلك، تذهب أنت وتعود من أي بقعة، لكنك تبقى في القدس وحدها إذ هي فيك، وأنت فيها... أنى أقمت وأنى ارتحلت! ولأنك كذلك، نقبل برحيلك المفاجئ، لأننا نقبل بمشيئة الله التي اختارت لك الرحمة من واقع سائد... واختارت لنا العذاب... برحيلك! ولا نقول: وداعاً، بل إلى اللقاء، ولن نقول بعد اليوم: أين أنت يا فيصل، فأنت دوماً معنا، مقيم فينا، والحزن عليك أيضاً فينا مقيم!