كل الأمم تمجد أبطالها الذين قاوموا العدوان عليها، وحققوا لها حريتها، وتعبر عن احتفائها بهم عبر نصب تذكاري للجندي المجهول، واحتفال بعيد الاستقلال، ولا نعرف أمة في التاريخ ناقشت شرعية المقاومة، واكتشف بعض عباقرتها أن مقاومة العدوان عليها إرهاب يزعج المحتل أو المعتدي. إنني أستطيع أن أفهم موقف إسرائيل من المقاومة التي أطلقت على الفدائيين اسم المخربين قبل تداول اسم الإرهاب عالمياً، وأستطيع أن أتفهم دوافع بعض قادة الولايات المتحدة من الصهاينة الذين استولوا على المشروع الأميركي ووظفوا كل طاقات أقوى دولة في العالم لصالح إسرائيل. ولعلي أجد تفسيراً لموقف أوروبا التي تبدو بعض دولها العظمى ضعيفة أمام إسرائيل وأنصارها، إلى حد أنها تناقض مبادئها بل تخالف أبسط قواعد المنطق حين تقف ضد المقاومة العربية والإسلامية مع أنها ما تزال تمجد جنديها المجهول وتحتفل بمقاومتها للنازية ولكل مقاومة للاحتلال والعدوان عليها في تاريخها. ولكن بعض الحكومات اليوم (ولا أقول الشعوب) تبيع مبادئها لصالح حسابات تجارية أو أطماع استعمارية تجعلها تخشى أن يفوتها نصيب من عوائد الولوغ في دم العرب. وأستطيع أن أتفهم موقف بعض الدول الضعيفة التي لا تملك الوسع الذي أتاح الله للمرء ألا يتجاوزه، ولاسيما أن بعضها لا يملك من الوسع شيئاً، فهي تخشى غضب الأقوياء ونقمتهم، فتضطر إلى تقبيل اليد التي تصفعها وقد تدعو عليها بالقطع سراً كما يقول المثل البراغماتي. ولكنني لا أستطيع أن أتفهم على الإطلاق أن يقف ضد مشروع المقاومة من يتلقى العدوان من عدوه كل يوم، ومن تحوم طائرات العدو في سمائه صباح مساء، ومن يرى وطنه يستباح، ومع ذلك يقف ضد أبناء شعبه، ويتبنى منطق الأعداء، والعجب العجاب أن تجد من بات يعتبر المقاومين أعداءه ويتقرب بالود والتذلل لعدو وطنه وأمته. إن ما يحدث في بعض مواقع الساحة العربية الساخنة من حوار أو نقاش حول مشروعية المقاومة، وحول ضرورة أن تلقي سلاحها وتسلمه إلى عدوها، وحول ضرورة أن تنسحب من الحياة السياسية وأن تقعد في الملاجئ وتكتفي بتلقي الضربات والعدوان اليومي على شعبها وأرضها، أمر لا سابقة له في التاريخ، فقد كان يقوم بهذا الدور في تاريخ كل الشعوب من تسميهم الأمم طابوراً خامساً يجنده العدو للضرب من الخلف، ولم يكن دعاة هذا المنطق المخالف لقواعد المنطق الإنساني يجرؤون على الظهور العلني أمام شعبهم، لكن المفجع في الحياة السياسية اليوم أن يكون هذا الحوار العجيب حول شرعية المقاومة وشرعية سلاحها موضوع نقاش علني، وأن يجد أنصاراً ممن يسمون أنفسهم وطنيين. لقد عجزت الصهيونية العالمية عن تدمير المقاومة العربية لمشروعها، واضطرت إسرائيل أن تنهزم أمام المقاومة الشعبية البسيطة رغم كل انتصاراتها على العرب في الحروب النظامية التي تقوم على حسابات الضعف والقوة العسكرية، وكانت إسرائيل تتلقى من الدعم الأوروبي والأميركي ما لا يجده العرب مجتمعين، لكن العرب الذين لم تهن عزيمتهم يوماً رغم كل الهزائم الرسمية وجدوا نقطة قوتهم في قدرتهم على مواجهة الموت بشجاعة، وكانت دوافع هذه القوة المعنوية دوافع وطنية أو قومية أو منطقية، وقد امتزجت هذه الدوافع جميعاً مع دافع عميق الحضور في الوجدان العربي هو الدافع الديني الذي تعرف إسرائيل أكثر من سواها أهمية حضوره بين الدوافع، لأنها تستمد كل قوتها منه وهو أساس حضورها لدرجة أن اسم دولتها اسم نبي، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تعتبر الدين قومية جامعة، فشعب إسرائيل هو الشعب اليهودي في العالم على اختلاف قومياته وجنسياته. ورغم أن الصهيونية تدعي العلمانية إلا أنها لم تكن تملك وسيلة لجمع شتات اليهود في العالم غير الدافع الديني. ورغم كل ادعاءات قادتها للعلمانية فقد كانوا جميعاً يبحثون عن الهيكل ويحفرون تحت المسجد الأقصى ويخططون لهدمه، وينتظرون أن يتحقق الوعد الإلهي كما يعتقدون بإقامة مملكة الرب، وهزيمة المسيحيين والمسلمين وكل "الغوييم"، وقد خططت الصهيونية طويلاً لإبعاد الدافع الديني عن الصراع العربي- الصهيوني، وقد نجحت بفضل رغبة العرب بإبعاد الدين عن ساحات الصراع، لأنهم لا يريدون خوض حروب دينية، وهذا الموقف نابع من قناعات المسلمين وعقائدهم، فهم يحترمون الأديان السماوية ويؤمنون بأنبيائها، فالمسيح عليه السلام مقدس في العقيدة الإسلامية وأنبياء بني إسرائيل عليهم السلام مقدسون، لأن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، ولهذا السبب سمى لعرب المسلمون الحروب الصليبية "حروب الفرنجة"، ولم يقبلوا تسميتها "صليبية"، لأنهم يحترمون الصليب لكونه رمزاً لدين يقدسون نبيه، كما يقدسون أمه التي اصطفاها الله وطهرها وفضلها على نساء العالمين جميعاً، وهي المقدمة على أمهات المسلمين كما في القرآن الكريم، وبذات الرؤية استبعد العرب المسلمون الدين من صراعهم مع الصهيونية، وما يزالون يعلنون أنهم لا يعادون اليهودية بوصفها ديناً، ولكنهم يعادون المشروع الصهيوني العدواني الاستيطاني. ومن ذات المنطلق العقائدي أبدى العرب استعدادهم للسلام مع إسرائيل إذا هي كفت عن العدوان واكتفت بما احتلت من الأرض العربية عام 1948 بوصفه صار واقعاً دولياً، ولكن العرب الذين أعلنوا دوافع وطنية محضة للمقاومة وجدوا أن استبعاد الدافع الديني من الصراع لا يعني استبعاده من الدوافع للتعبئة، ولاسيما أنه يشكل الدافع الأقوى الذي استخدمته كل المقاومات عبر التاريخ، بل استخدمه المعتدون، وقد رأينا كيف استخدمته الولايات المتحدة في حربها على العراق، حين عبأت جيوشها بعقيدة كونهم أخياراً يقومون بمهمة مقدسة هي قتل الأشرار وتدمير محور الشر، ومفهوم الخير والشر الذي استخدمه الخطاب الأميركي هو مفهوم ديني محض، وقد نجح العرب في استخدام الدافع الديني أكثر مما نجحوا في استخدام سواه من الدوافع، حتى لم يبق في ساحة المقاومات سواه صامداً، وقد جاءت انتصارات "حزب الله" و"حماس" وسواهما من منظمات المقاومة التي تعلي شأن الدين بين الدوافع، لتجعل إسرائيل تدرك خطورة أن يستخدم العرب الإسلام في الصراع، فكانت الخطة أن تقضي على الإسلام وأن تشوه صورته في العالم، وأن توعز للمفكرين والمثقفين الذين يشتغلون لصالحها أن يوظفوا كل طاقاتهم الفكرية لإعلان حرب الأديان وصراع الحضارات والثقافات. ومهما اختلفت المسميات فإن الدائرة تدور حول الإسلام، لأنه الدافع الأشد إرعاباً لإسرائيل، وقد خطط الصهاينة بشكل عبقري للخلط بين مفهوم المقاومة ومفهوم الإرهاب بعد أن نجحوا في توظيف جريمة 11 سبتمبر ضد الإسلام عامة مستفيدين من تنظيم "القاعدة" الذي أسسته الولايات المتحدة في أفغانستان ثم استخدمته لتشويه صورة الإسلام عبر التركيز الإعلامي على الأفكار المتطرفة التي أطلقها الحمقى ممن ينتمون إلى الإسلام ويدعون في خطابهم المزيف الخارج عن عقائد الإسلام لقتل الأبرياء ولاستخدام التفجيرات في المجتمعات الآمنة، وهم بذلك ينفذون مآرب أعداء الإسلام. وحين اختلط الحابل بالنابل، كما يقول العرب، ضاعت الحقيقة وبات الإسلام يتهم على الشبهة بعد كل جريمة تقع في العالم، وقد ترافق ذلك مع هجمة إعلامية يساندها خطاب ديني مصنوع في ذات الدوائر الصهيونية، والهدف كله هو القضاء على المقاومة التي تستخدم الدافع الديني، وتجريمها، واعتبارها إرهاباً يهدد أمن العالم، ولئن كانت إسرائيل تخدم أهدافها في هذه الحرب المنظمة ضد المقاومة فأي هدف يخدم العرب أو المسلمون الذين يقف بعضهم ضد المقاومة؟ ولصالح من يدعو بعضهم إلى إلقاء سلاح الدفاع الوحيد عن الوطن ضد أي عدوان قائم أو مرتقب؟ وما الذي يبقى للأمة من قوة إن توقفت "حماس" عن مشروعها التحرري، أو توقف "حزب الله" عن الدفاع عن لبنان؟ أو توقفت المقاومة العراقية عن مقاومة الاحتلال الأميركي؟ إننا نخشى أن يحقق العدو هدفاً خطيراً على العرب هو جرهم إلى حروب أهلية، وأن يحارب بعضهم المقاومة نيابة عن إسرائيل فيحققون لها ما عجزت عن تحقيقه.