حان الوقت لكتابة تاريخ الحركة الإسلامية الحديثة في المملكة العربية السعودية، ففي بلادنا حركة إسلامية نشطة، متعددة المشارب، نشأت أجنحتها في ظروف تاريخية متباينة، لها امتدادات محلية وخارجية، تتحالف أحياناً وتتنافس أحايين أخرى، ولكنها في مجملها متميزة عن غيرها في بلاد المسلمين الأخرى، فهي حركة إسلامية في بلد إسلامي التوجه والنشأة والتاريخ، بل إنه نتاج حركة إسلامية لا يزال لها تأثير على حركات الإسلام السياسي. كما أن في بلادنا قدراً هائلاً من الإسلام يحيط بنا، ما بعث في نفس وفعل هذه الحركة قدراً من الحيرة، فهي لا تستطيع أن تقارن نفسها وظرفها بمن حولها، وأخطأت عندما استعارت تجارب الآخرين في "العمل السري" ومشاعر وثقافة "المعتقلات" بعضها واقعي ارتضى دور السند المصلِح المذكِّر للخير للأمير والدولة، والبعض الآخر اشتطَّ، فأصرَّ على تغيير هوية البلاد والعباد مُصراً على أنهما حادا عن الطريق القويم ليبرر غلوه وطموحاته. اليوم يسود في الشارع السعودي رأي عام ناقد للحركة، التي أصبحت "حيطتها قصيرة" فاتهمت بأنها مسؤولة عن التطرف و"القاعدة" وكل فشل شابَ قصة النجاح السعودي الكبير، وفي ذلك ظلم، فللحركة إيجابياتها، فهي قد حمت شباب الحرمين من فتنة الأفكار التي عصفت بعالمنا العربي خلال الستينيات والسبعينيات، ولا ينكرن أحد أن بعضاً من هذه الفتن أصاب جيلاً سبقنا، بل قد جاء يومٌ فترَ فيه التدين في بلادنا. ولا زلت أذكر عندما كنت طفلاً ألهو في ساحة الحرم المدني في ليالي رمضان مع أترابي في الستينيات الميلادية، كان الشيخ عبدالعزيز بن صالح رحمه الله يؤمُّ المصلين في صلاة التراويح ولا تكاد صفوف المصلين تتجاوز الحرم المجيدي العتيق، وقَلّ أن تجد بينهم شاباً يافعاً. انظروا للشباب المصلين الخاشعين المتضرعين اليوم يملأون ساحات الحرمين الهائلة وسطحهما لتدركوا حجم التحول الذي بارك الله به بلادنا بفضل هذه الصحوة. ولكن الصحوة اختُطِفت، وأصابها قدر من غلو وغرور، واصطدمت بمجتمعها، بل حتى تناحرت فيما بينها وتنابذ شيوخها وناشطوها بالألقاب والمصطلحات. قول سيرفضه الخاطفون ولكن لو كتبنا تاريخ صحوتنا، لأدركنا هذه الحقيقة، وفي تسجيل تاريخ الصحوة ثلاث فوائد وربما أكثر، أولاها: أن تخرج الحركة من عقلية "العمل السري" التي تؤثر على نفسية وفعل الناشطين فيها، وهي سرية لم يحتاجوها يوماً في بلد يفخر بانتمائه الإسلامي، بل إن الدولة نفسها تمارس الدعوة ناهيك عن دعمها لها، وهي تُحاسب اليوم على ذلك، وتدفع الثمن وحدها أمام الضغوط العالمية التي لم تنفك منذ واقعة 11 سبتمبر التي اقترفتها طائفة من مختطفي الصحوة، بينما يتفرج أنصارهم ويفركون أيديهم منتظرين ما يعتقدونه لحظتهم التاريخية والتي لن تكون بإذن الله. إن الخروج من "الحالة السرية" ضروري ليكون الحوار معها وفيما بين أجنحتها واضحاً صريحاً من دون الحاجة إلى التلميح والتعريض، ويكفي تحليل واحد من البيانات التي انهالت مؤخراً من أحد أجنحتها المتشكك والقلِق من التحرك الإصلاحي الجاري في البلاد لإدراك قدر ما فيها ومن تلميح وتعريض بل حتى "تحذير" كما جاء في عنوان أحدها، والأفضل ألف مرة أن يُجلس معهم حول طاولة لإدراك ما يرمون إليه عوضاً عن هذا التجاهل بينما تغلي النفوس بما تغلي. الفائدة الثانية: أن يعرف العامة حقيقة من يتعاملون معهم، وما هو خلف الخطب الرنانة، ومن هم "الإخوان"، ومن هم السلف والجامية والسرورية والتبليغ والطرقيون والجهاديون...الخ، في قائمة لا تنتهي من المصطلحات التي تتوالد من حولنا والتي يعرفها أصحابها ويتحزبون حولها فيتناحرون عليها ويتنابذون تارة ويتحالفون تارة أخرى وفق المصلحة، بينما يتفرج عليهم العامة يتساءلون عما يتحدث عنه هؤلاء "المطاوعة". الفائدة الثالثة والأهم: هي تقييم الصحوة، ماذا كسبت؟ وماذا خسرت؟ وماذا كسب المجتمع والدولة منها؟ وماذا خسرا؟ وحتى يفهم "الصحويون" أنفسهم لماذا انتكست صحوتهم في أشواك التشدد والغلوّ، وكيف تحولت من دعوة مُحبة للناس، ترفق بهم، وتحنو عليهم، إلى حركة تجلدهم وتصنفهم وتفرقهم، بل حتى دب في وسطها قدر من البغضاء والحسد والاستعداء وسوء الظن، وتداخلت مع تيارات التكفير واقتربت أو كادت من حالة الخروج على ولي الأمر. كل ذلك لن يُعرف إلا إذا أشرَعت الصحف السعودية صفحاتها، أو مراكز البحث أبوابها، لتسجيل ذكريات وتطور أفكار أبناء الصحوة وجلهم لا زالوا قادرين على العطاء والمشاركة فهم في الأربعينيات والخمسينيات من العمر، مرت بهم منذ يفاعتهم أحداث وتغيرات عدة، بعضهم نضِج، وآخر متمترس في موقعه، وثالث ملَّ وتبدل وتخلى، ورابع حائر يتفكَّر ويتقلَّب. منذ فترة وهذه الفكرة تطاردني، بدأت قبل سنوات في أمسية على شاطئ البحر في جدة، كنا جمعاً من الإسلاميين الشباب من مناطق مختلفة من المملكة، بعضهم التقيته للمرة الأولى، رأيت شباباً غير تقليديين يقرأ بعضهم لابن رشد وابن حزم، وآخر متأثراً بمالك بن نبي، وفريقاً يقرأ لمحمد أركون والجابري، وآخر مُصراً على شرعية منهج الشيخ الراحل حمود بن عقلا الشعيبي والذي اشتهر بتشدده وكان من قلائل العلماء الذين أثنوا على فعلة 11 سبتمبر، ولكن صاحبنا قال إن عواتقه لم تعد تحتمل تشدد الشيخ وإن ظل يعتقد أن الحق معه كونه أقرب للنص، مسكين هذا النص الذي يحتمل أهواءنا وتقلبات نفوسنا البشرية. كانوا في مرحلة اكتشاف، فامتد حوارنا طوال الليل حول موقف الحركة من الدولة، شيء شبيه بهذا الحوار الجاري على صحفنا حول مفهوم الدولة المدنية والدينية، وحول التحديث والعصرنة والعولمة. اتفق الجميع على الأقل أن أفكارنا الشابة في زمن "الأسر" والجامعة وحلقات العلم كانت مثالية، وأننا نبحث عن قدر من الواقعية والمصالحة بين الفكرة واللحظة المعيشة. روى البعض ذكرياته في الحركة، فاكتشفنا أنه كادت تكون لكل منا حركة تخصه وشيخ وجماعة، بعضها محلي تماماً وأخرى لها امتدادات خارجية، البعض كان يرتحل بعيداً حتى بنغلادش أو قريباً إلى السودان أو الأردن ليلتقي بشيخ أو يحضر درساً أو مؤتمراً، الفكرة الجامعة هي حلم الدولة الإسلامية التي تقيم العدل وتسترد الحقوق. بعضنا تلاقى في المنهج، فوجدنا أننا نقرأ نفس الكتب ولكن فرَّقت بيننا الجغرافيا وظروف نشأة الجماعة، والبعض الآخرون متجاوِرون في نفس المدينة وربما نفس المسجد ولكن فرَّق بينهم المنهج. ولكن الذي جمعنا في تلك الليلة أننا كنا في فترة مراجعة، لعل أن معظمنا كان في الأربعين أو اقترب منها، وللعام الأربعين سره في حياة المسلم، وكنا قد تخلَّينا عن التعصُّب الحزبي فمرت تلك الليلة بسلام، من دون جدل أعمى بهدف البحث عن الحقيقة التي تجمعنا وليس "الحقائق" التي توهمناها ففرَّقتنا. لعلنا جميعاً بحاجة إلى لحظة كتلك. إنها حكمة الأربعين فلا تضيِّعوها.