هناك اليوم شيء يبدو سريالياً إلى حد ما في العالم الواقع عبر الأطلسي، وهو أن هناك نوعين مختلفين تماماً من السجال يدوران على جانبي المحيط حول العراق ويتسمان بأن كلاً منهما يدور في انفصال عن الآخر. وعلى الرغم من أن هناك في الوقت الراهن حكومة منتخبة من كل الفصائل في بغداد تكافح من أجل إحكام قبضتها على الأمن، فإن ما نراه أمامنا هو أن القادة الأوروبيين يُحجمون عن مواجهة الخطر الماثل أمامهم وكأن أية تداعيات للمشكلة العراقية ستنعكس على أميركا وليس عليهم. فعندما نقول للولايات المتحدة في إشارة للشرق الأوسط الذي يشكل فناءنا الخلفي" لقد كسرتيه فعليكِ إذن إصلاحه" فإن ذلك يمثل هروباً من المشكلة. وسيكون الأمر بمثابة مفارقة ساخرة وخيانة لمصالح شعوبنا عندما تمتنع بعض الدول عن تقديم يد المساعدة لأميركا خوفاً من أن تؤدي تلك المساعدة إلى رفع نسب التأييد المتدنية للرئيس الأميركي في الوقت الراهن. وهنا قد يكون مفيداً للنخبة الأوروبية أن تقوم بإعادة قراءة كتب التاريخ التي غطت السنوات ما بين 1939- 1940 عندما وقفت الولايات المتحدة على الحياد بينما كانت قوات النازي تجتاح أوروبا وتبتلع بولندا وهولندا وبلجيكا وفرنسا. في ذلك الوقت تبنت قيادات الولايات المتحدة والعديد من أفراد شعبها الفكرة القائلة إن القتال الذي يدور في أوروبا لا يخصها وإنه مهما كان حجم الفظائع والشرور التي ستتعرض لها أوروبا جراء ذلك القتال، فإن أميركا ستظل آمنة. لم يحدث هذا بالطبع وجاء هجوم "بيرل هاربر" لكي يذكِّر الأميركيين بما كانوا يعرفونه ولكنهم كانوا يأبون الاعتراف به. وأدى تدخل الأميركيين في الحرب بعد هذا الهجوم إلى إنقاذهم وإنقاذنا نحن الأوروبيين كذلك. وحتى إذا ما عدنا إلى فترة أقرب من التاريخ وهي تلك الفترة التي احتدمت فيها حرب البلقان، التي كانت الصورة فيها لا تقل قتامة عن العراق اليوم عندما انتشرت أعمال القتل والوحشية المنتمية للقرون الوسطى كما سادت أعمال التطهير العرقي الهمجية، ومعالم المأساة الإنسانية التي كانت تطل علينا كل يوم على شاشات التلفزة. اعتقد الكثيرون في ذلك الوقت أنه لا أمل، وأنه حتى إذا ما انتهى القتال بسبب إنهاك الطرفين، فإن الوضع سيحتاج إلى أجيال وأجيال كي يتسنى تحقيق السلام. وعلى الرغم من معالم الشبه الشديدة بين الحالة في البلقان آنذاك، والحالة في العراق في الوقت الراهن، فإنه يمكن القول إن العنف هناك في ذلك الوقت حتى إذا ما أخذنا عدد السكان في الحسبان، كان أوسع نطاقاً من العنف السائد في العراق الآن، ولكن الفارق كان هو أننا كنا نعرف ما يتعين علينا عمله عام 1995 وقمنا به فعلاً ونجحنا فيه وذلك عندما تدخلت قوة دولية ضخمة لحفظ السلام قوامها 65 ألف جندي واقتحمت كل منطقة من المناطق المضطربة. ساهمت الأمم المتحدة بأقصى قدر ممكن في ذلك الوقت، كما قام الاتحاد الأوروبي بتطوير خطة للمساعدة، وشارك العالم عسكرياً ودبلوماسياً ومالياً في محاولة حل الأزمة. لم يكن ما قام به المجتمع الدولي مجرد مصادفة، أو حدث غير قابل للتكرار، كما أنه لم يتم لدوافع إنسانية فقط. كان السبب الذي دفع جميع تلك الأطراف للمشاركة هو أن تداعيات ما كان يحدث هناك كانت تهددنا نحن هنا في أووربا، وكنا نعرف أننا يجب أن نتصرف بحزم من أجل حماية مصالحنا. لقد حان الوقت كي يبدأ القادة الأوروبيون في التفكير في أن ما يحدث في العراق اليوم سيؤثر على مستقبلهم. إن الوضع في العراق الآن صعب ومعقد ودموي ولكن ظروفاً تشبه هذه الظروف لم توقفنا عن التدخل والعمل منذ 60 عاماً في الحرب العالمية الثانية أو 10 أعوام في البوسنة أو حتى منذ سبعة أعوام في كوسوفو. كنا نعرف ما يتعين علينا عمله في ذلك الحين وقمنا به لحماية شعبنا والمحافظة على أمننا. إن ما يحدث في العراق الآن يمكن أن يدمر مستقبلنا نحن كذلك وهو ما يدفعني في النهاية للقول إن هذا ليس هو الوقت الذي نقوم فيه بالالتفات بعيداً عما يحدث هناك. جورج روبرتسون ـــــــــــــ السكرتير العام السابق للناتو (1999-2003) ووزير الدفاع البريطاني السابق (97-1999) ــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"