البيت الأبيض على حق، عندما يصر على أن هدف أميركا في عراق ما بعد الحرب، هو بقاء البلد موحدا بدلاً من تقسيمه وفقا لخطوط طائفية. وما دام الأمر كذلك.. فما الذي يدفع الإدارة إلى اتخاذ خطوات تجعل من الاحتفاظ بالبلد موحداً مهمة مستحيلة على أرض الواقع. من هذه الخطوات على سبيل المثال، ما قام به الرئيس بوش في يناير الماضي عندما حول نصف الأموال المخصصة لإعادة إعمار العراق، لسد حاجات أخرى منها الأمن. وإذا ما أخذنا في اعتبارنا أن استراتيجيتنا الحالية يطلق عليها اسما رمزيا هو" التطهير- والتمسك- والبناء"، فإنه يحق لنا أن نتساءل إلى أين يمكن أن تؤدي بنا مثل تلك الخطوات من جانب الإدارة؟ وما هو المقصود بهذه الاستراتيجية على وجه التحديد، وما هو المطلوب التمسك به، هل التمسك بالأمل أم بماذا؟ على العموم يمكن القول إن قرار الرئيس قد أرسل إشارات مزعجة للعراقيين بشأن درجة تصميمنا، علاوة على ذلك فإن ذلك القرار يبدو أقل قابلية للفهم إذا ما نظرنا إليه على ضوء حقيقة أن مشروعنا الشديد الأهمية الخاص بإعادة التعمير لا يكلف سوى شريحة صغيرة من إجمالي نفقاتنا السنوية في العراق. يأتي بعد ذلك أن الإدارة، قامت بإجراء تخفيض كبير على جهود تحويل العراق إلى النظام الديمقراطي، التي تضطلع مجموعات غير حكومية بعدد كبير منها. والموازنة المخصصة لهذه الجهود للعام المالي 2007 هي موازنة ضئيلة لا تتجاوز 63 مليون دولار. وهذا المبلغ الرمزي، لو قارناه بتكلفة حرب تتجاوز 200 مليون دولار يومياً، فإنه سيعزز لدى البعض الاعتقاد بأن الوضع الأمني المتدهور، هو الذي يحول بين هذه الجهود وتحقيق درجة الفعالية المطلوبة منها. علاوة على ذلك، فإننا إذا ما أخذنا في اعتبارنا أن الإدارة كانت تقول دائماً إن عملية تحويل العراق إلى بلد ديمقراطي، هي من أهم العمليات التي تسعى إلى تحقيقها فإن قيامها بتخفيض الأموال المخصصة لها يرسل بإشارات خاطئة إلى جميع من يعنيهم الأمر. والموازنة الأخيرة التي اقترحتها الإدارة الأميركية توصي أيضاً بتخفيض العدد الإجمالي لقوات الجيش وقوات المارينز في العراق. وإذا ما كان الرئيس بوش ومستشاروه ملتزمين بهدف الدعم المستمر للـ"حرب الطويلة" في العراق، فكيف يوفقان بين هذا الدعم، وبين تخفيض العدد الإجمالي للقوات المشتبكة في الحرب؟ إلى ذلك نجد أن بوش ومساعديه قد أشاروا مراراً وتكراراً إلى إجراء خفض كبير في القوات هذا العام، بحيث ينخفض العدد ربما إلى 100 ألف جندي، مقارنة بالعدد الحالي الذي يصل إلى 130 ألف جندي، وذلك على الرغم من العنف المتصاعد في بغداد، وحقيقة أن قادتنا العسكريين في العراق كانوا يقولون دوماً إنه لن يكون بمقدورنا سحب قواتنا من العراق بأمان إلا إذا ما تحسن الوضع. ربما يكون كل ما تقوم به الإدارة هو اتخاذ خطوات أقل لتطمين الناخبين قبل الانتخابات. ولكن مما يؤسف له أن الناخبين الأميركيين ليسوا هم الوحيدين المهتمين بذلك فهناك أيضا العراقيين الذين يجب الاهتمام بأخذ رأيهم فيما يجري. وكانت الإدارة الأميركية قد عبرت مراراً وتكراراً عن أن ما يعرف بـ" فرق التعمير المناطقي" وهي عبارة عن مجموعة مكونة من 100 متخصص في الشؤون السياسية والاقتصادية والقانونية وفي العلاقات المدنية- العسكرية، مهمتهم المساعدة في توزيع المساعدات، وتقديم النصح للمسؤولين المناطقيين العراقيين، مهمة للغاية لنجاح الاستراتيجية الأميركية في العراق. ومع ذلك جاء في تقرير للواشنطن بوست في منتصف أبريل الماضي أن أربعة فقط من بين الـ 16 فريقا المقترح، هي فقط التي بدأ العمل في تكوينها. بالإضافة لذلك لازلنا نجد أن هيئات الجيش ووحداته في العراق حتى تلك التي تقوم بتدريب قوات الأمن، لم تستكمل بعد عدد أفرادها المحدد. لا بل إنني عرفت من بعض زملائي السابقين خارج منطقة الحرب سواء في قيادة القوات المشتركة، أو القيادة الأوروبية، أو قيادة المحيط الهادئ، أن قواتهم لا زالت بكامل عتادها وتحتفظ بكامل أعدادها. فعلى ما يبدو أن البنتاغون لا يرى أن حرب العراق مهمة بحيث يسلتزم الأمر نقل أفراد من التشكيلات المخصصة للعمل في أوقات السلم. في النهاية كانت الإدارة تصرح دائما بأن قوات الأمن العراقية الفعالة والمنضبطة والملتزمة بالقوانين، تعتبر في غاية الأهمية بالنسبة لاستراتيجيتنا في العراق. على الرغم من ذلك فإنها لم توفر لهذه القوات سوى أعداد ضئيلة من المعدات. فبعد مرور ثلاث سنوات على سقوط صدام، فإننا نجد أن معظم القوات العراقية تستخدم مركبات مفتوحة الظهر، وعربات دفع رباعي غير مدرعة. دعونا نواجه الأمر وجها لوجه: إن هذه القائمة التي تضم الأعمال التي عجزت الإدارة عن القيام بها، لا تترك أمام أي عراقي عاقل من خيار سوى الاستعداد لمواجهة حقيقة انسحاب القوات الأميركية قبل أن تصبح الحكومة وقوات الأمن العراقيتان جاهزتين لإدارة الدولة بوقت طويل. وبالنسبة لمعظم العراقيين سواء كانوا عرباً أم أكراداً، سنة أم شيعة، فإن هذا سيعني بالنسبة لهم اللجوء إلى المليشيات الدينية والعرقية والعصابات الإجرامية والمتمردين الإسلامويين من أجل توفير الحماية لهم، وهو ما سيؤدي بدوره إلى زيادة خطر الحرب الأهلية إلى حد كبير. والمليشيات بدأت بالفعل في التطلع إلى الأمام والتحسب لما هو آت. فبعض تلك المليشيات يقوم باقتطاع مناطق آمنة لاستخدامها كقواعد في الحرب القادمة، من خلال دفع العراقيين المنتمين إلى جماعات اثنية أو طائفية مغايرة إلى الخروج من أحيائهم وقراهم. وتقدر السلطات العراقية أن هناك أكثر من 100 ألف عائلة قد فرت بالفعل من منازلها. وهذه العودة إلى الاعتماد على المليشيات والإعداد للدخول في صراع مرير ليست بالظاهرة الجديدة. فهذا هو تقريباً ما رأيناه في أفغانستان منذ عقدين من الزمان. فبمجرد أن أدرك الأفغان في ذلك الوقت أن الروس سينسحبون فإن معظم الجماعات المتمردة أوقفت القتال معهم، وبدأت في التأهب لخوض حرب متعددة الأطراف وهي الحرب التي استمرت حتى قيام الولايات المتحدة بغزو أفغانستان عام 2001. إن الإدارة الأميركية على الرغم من جميع عثراتها بعد سقوط "البعثيين"، قد تمسكت بفكرة واحدة صحيحة وهي أن العراق المتماسك والموحد أفضل من العراق المنقسم والممزق. ولكن كي يتسنى المحافظة على العراق موحداً، فإن البيت الأبيض يجب أن يلتزم بخطوط زمنية طويلة، وأن يقوم بتقديم الأموال اللازمة للجهد العسكري وجهود إعادة التعمير. أما البديل لذلك فهو أن يغير بوش رأيه ويخبر الأميركيين أننا يجب أن نبدأ في التخطيط لانقسام سلمي. توماس إكس هاميس عقيد متقاعد في "المارينز"، ومؤلف كتاب "المقلاع والحجر: الحرب في القرن الحادي والعشرين" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"