في سنة 1998 نشر فرانسيس فوكوياما مقالا في مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تحت عنوان "المرأة وتطور السياسة الدولية"، استهله بسرد حكاية مرعبة عن العنف الذي يميز حيوانات الشامبانزي، خاصة الذكور منهم بعدما لاحظ في أحد أقفاصها وجود أشلاء متناثرة على الأرض بسبب المعارك الضارية بينها. وقد انطلق فوكوياما من حكايته تلك ليسلط الضوء على بعض الجوانب السوسيولوجية والبيولوجية المتحكمة في الصراع البشري، مستندا إلى فكرة تقليدية مفادها أن الرجال أكثر عدوانية من النساء. وتابع "فوكوياما" موضحاً أنه في المجتمعات المتقدمة عندما تتقلد المرأة مواقع السلطة السياسية وتتبوأ مراكز قيادية فهي أيضا تستقدم معها تقنيات غير عنيفة في حل المشكلات وتسوية الخلافات. أما في البلدان الفقيرة غير الديمقراطية التي لا تقف فيها المرأة على قدم المساواة مع الرجل فإن هذا الأخير سيستمر طويلاً في احتكار السلطة والمناصب القيادية. ولم يكن الأمر ليثير انتباه الباحثين لو لم يعتبر "فوكوياما" أن هذا الاتجاه في التعامل مع المرأة بين مجتمعات متقدمة وأخرى تقليدية قد تكون له تداعيات على الأمن القومي. وتتلخص تلك النظرة في مدى قدرة الديمقراطيات النسائية، أو "دول الفتيات" كما يطلق عليها أرنولد شوارزنيجر، على مواكبة الدول الأخرى في العالم "التي يديرها رجال شباب لا يحدهم طموح". ورغم الانتقادات الكثيرة التي وجهها الباحثون والأكاديميون إلى تعميمات "فوكوياما" حول علاقة التوزيع الاجتماعي للأدوار بين المرأة والرجل (الجندرة) بالعنف والنزوع العدواني، إلا أن فوكوياما كان مصيباً في إبداء قلقه على مستقبل لن يظل فيه العالم منقسماً فقط على أساس الثروة والغنى، بل سينقسم أيضاً على أساس المساواة بين الجنسين. ولإلقاء الأضواء الكاشفة على هذا الاختلال الذي بات يميز عالمنا المعاصر دعونا ننظر إلى اتجاهين يميزان العالم اليوم. فحسب "فوكوياما" يمكن رصد الاتجاه الأول بوضوح في الغرب المتقدم حيث قطعت المرأة أشواطاً مهمة على طريق تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع الرجل. وفي بعض المجالات التي كانت محصورة تقليدياً على الرجل أصبحت المرأة متفوقة فيها، لا سيما في ظل تأكيد الدراسات على أن المستثمرات يحققن أرباحاً أكثر من زملائهن الرجال. والأكثر من ذلك تفيد التقديرات بأن 58% من طلبة الجامعات سيكونون من النساء، فضلاً عن أن النساء في بريطانيا يحصلن على شهادات في القانون والطب أكثر من الرجال. هذا ما يحدث في الغرب، لكن الأمر يختلف تماماً في العالم النامي، حيث تشهد بعض المجتمعات صعوداً بارزاً للتطرف الديني الذي يقضي على حقوق المرأة ويهيل عليها التراب. كما تختفي أعداد كبيرة من النساء من الخريطة الديمغرافية في دول آسيا النامية بسبب الانحياز التقليدي في تلك المجتمعات لصالح إنجاب الذكور. ويسمي الخبراء هذه الممارسات المناصرة للذكور على حساب الإناث، خصوصاً عند الإنجاب "بالنساء المفقودات"، حيث تعمد الكثير من الأسر الآسيوية إلى إجهاض الجنين عندما يتبين أنه أنثى. والنتيجة حدوث اختلال في التوازن بين نسبة الذكور والإناث في آسيا، إذ أصبح لكل 106 ذكور يولدون في الصين والهند، اللتين يشكل عدد سكانهما 40% من مجموع سكان العالم، 100 أنثى فقط. ويتوقع المراقبون أن تتسع الهوة بسبب التكنولوجيا الطبية التي تسهل عملية اختيار جنس الأجنة، حيث سجلت الصين سنة 2002 ولادة 116 ذكراً لكل 100 أنثى. وهذا ما يجعل من مسألة المساواة بين الجنسين على الصعيد الدولي تنطوي على اختلاف كبير في الاتجاهات بين العالمين المتقدم والنامي، ما ينعكس حسب "فوكوياما" على الاستقرار العالمي. وبسبب هذا الاختلال لا يبدو المستقبل مشرقاً بالنسبة للعالم النامي، فعندما يواجه مجتمعاً ما نقصاً في عدد النساء القادرات على الإنجاب بالقياس إلى الرجال تؤدي الضغوط الاجتماعية إلى إسناد أدوار تقليدية إلى النساء وحرمانهن من المشاركة في الحياة العامة، ما يقود بدوره إلى ظهور مشاكل عديدة بسبب تلازم أنماط عدم المساواة في توزيع الأدوار الاجتماعية داخل المجتمع وبين ارتفاع مستويات الفقر واندلاع الصراعات. والأكثر من ذلك، كما تؤكد الدراسات التي تقارن بين المجتمعات المختلفة، أن فائض الذكور في مجتمع ما يفضي إلى احتقان الأوضاع وتفجر الصراعات التي لن تنحصر داخل حدودها، بل تنتقل أيضا إلى الخارج. وبيت القصيد أن الأعداد المتزايدة من الرجال المتوترين وغير المرتبطين في مجتمعات بعينها يشكل الوجهة المفضلة للإرهابيين والحركات المسلحة لاستقطاب الأتباع والمناصرين. الأمر مختلف في العالم المتقدم الذي يبدو بعيداً عن مشاكل الدول النامية، خاصة وأن الفرص المتزايدة أمام النساء تخلق مزيداً من الازدهار والاستقرار الاجتماعي. وبالنظر إلى الأعداد المتراجعة للرجال الذين يسعون إلى الحصول على شهادات عليا، قد تصبح النساء في وقت قريب أكثر سيطرة على الحياة العامة فيما يقتصر دور الرجال على المهام الثانوية. ومع ذلك ليست الصورة في العالم المتقدم مشرقة دائماً، ذلك أن أي نقص في عدد الرجال القادرين على تقلد المناصب العليا سوف يؤثر على استقرار المجتمع بنفس الطريقة التي يؤثر بها وجود فائض في أعدادهم. روزا بروكس أستاذة مشاركة بكلية القانون في جامعة فيرجينيا الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"