من يستمع إلى تصريحات الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير، في الأيام الأخيرة، يشعر بقلق كبير على مستقبل العالم، لسببين رئيسيين على سبيل المثال لا الحصر. السبب الأول: هو اعترافهما بالفشل في العراق ومحاولات التبرير البائسة التي قدّماها. طبعاً لا يعني ذلك أنني كنت أريد أن ينجحا في حربهما على العراق، لأنني في الأساس كنت ضد الحرب ولا أزال، كما كنت لا أثق بالسياسة الأميركية والسياسة البريطانية المُلحقة بها ولا أزال. والاعترافات الأخيرة تؤكد صحة وجهة نظري التي تتلاقى مع وجهات نظر عدد كبير من السياسيين والإعلاميين والمثقفين والمسؤولين. إلا أن القلق ينبع من إصرار الرجلين على اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام، وبالتالي لا أمل في الإصلاح والتغيير على مستوى التفكير السياسي وإنتاج القرار. والسبب الثاني، الملازم للأول، هو أن الاعترافات لم تقترن عملياً بإشارات أو قراءات أو خيارات أو سياسات أو ممارسات تشير إلى أن الرجلين ومن معهما ووراءهما في الغرف السوداء، قد تعلموا من العبر والدروس. وهنا مكمن الخطر الكبير. إذ ليس كافياً –وإن كان الأمر على قدر كبير من الأهميــــة أن تعترف بالخطأ– لأن الأهم هو أن تحاول تجنبه قبل الوقوع فيه، وبالتالي تسعى إلى إنتاج قرارات مدروسة بدقة بكل احتمالات نتائجها عليك وعلى الآخرين. وأن تحاول لاحقاً إذا ما وقعت في خطأ، إصلاحه والخروج منه والتعاون مع كل جهة صادقة ومخلصة لمحو آثاره. حالة الرجلين الشريكين المكروهين في عدد كبير من دول العالم ليست كذلك. لقد تورطا، وورطا دولتيهما وشعبيهما وشعوب المنطقة والعالم في حروب مفتوحة لا تنتهي، تحت عناوين جذابة لم يتحقق منه شيء. والآن يعترفان بآلاف الأخطاء، ولا نرى شيئاً عملياً على الأرض يعطي إشارات إلى تغيير في السلوك والممارسة والقرارات. لقد كتبتُ مرة مقالاً تحت عنوان "كيف يصنع القرار؟"، وأتذكر دائماً الظروف التي دفعتني إلى كتابته. وأكرر السؤال في محطات كثيرة. لأن الذي يتخذ القرار هو إنسان مثلنا، معرض للخطأ وللصواب. وبالتالي إذا تغلبت منهجية وغطرسة وغرور ومكابرة وانفعال وتسرع وعواطف هذا الإنسان ومن معه وحوله على العقلانية والموضوعية والمعرفة والثقافة وحس المسؤولية وتقدير العواقب، فإن في ذلك خطأ وخطراً كبيرين وهذا ما حصل مع الرئيسين بوش وبلير. على كل حال، التصريحات الأخيرة تتحدث عن أزمة كبيرة في العراق وفشل، ولكن ما هي الخيارات والسيناريوهات؟ تدور نقاشات في أوساط الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي" في أميركا تركز على هذا الأمر. يبدو حتى الآن أن الغالبية هي ضد الانسحاب السريع من العراق لأن ذلك سيؤدي إلى هزيمة كبرى لأميركا وجيشها، وإساءة إلى معنويات عسكرييها ومقاتليها وإلى سمعتهما في العالم وذهب البعض إلى الحديث عن الخشية من تكرار تجربة فيتنام. وثمة أفكار يتم تداولها حول انسحابات مبرمجة أو تجميع قوات بين أفغانستان والكويت إضافة إلى القواعد الموجودة. لكنها أفكار لم تنضج بعد بصيغتها النهائية لأن ثمة أسئلة تُطرح حول الوضع الداخلي في العراق. ما هو مستقبله في حال بقاء القوات الأميركية وتعرضها اليومي تقريباً لعمليات وسقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوفها وقد بلغ عدد القتلى حتى الآن أكثر من 2500 قتيل وأكثر من ثلاثة عشر ألف جريح؟ إضافة إلى هزائم سياسية مع تمدد إيراني كبير في البلاد ودخول على كل المؤسسات العامة والخاصة تقريباً وفي كل المجالات السياسية والإنمائية والأمنية والتربوية والدينية والمالية والاقتصادية وغيرها. وكيف يمكن الاستمرار هكذا في ظل الخلاف الأميركي– الإيراني حول السلاح النووي الإيراني والتحديات المتبادلة؟ هل تحتمل أميركا حرباً جديدة ضد إيران في ظل هذا الوضع؟ إذا كان الجواب لا، هل تحتمل أميركا البقاء أسيرة هذا الوضع في العراق بين ابتزاز وضغط سوريا وإيران عليها؟ إذاً ما العمل في ظل هذا الوضع؟ ثمة مسؤولون أميركيون يشيرون إلى مخارج، تنطلق كلها من التركيز على العمل العسكري لتعميم الفوضى في كل مكان، ويذهب بعضهم وفي إطار رؤية استراتيجية إلى اعتماد خيار تقسيم المنطقة انطلاقاً من العراق. فالقوات الأميركية في أفغانستان على صدام يومي مع الناس. والمشاهد التي يراها المواطنون الأفغان يومياً تؤكد أنه ليست ثمة سيطرة كاملة على الوضع هناك وأن قوات "طالبان" لا تزال قوية وفاعلة. فإذا كان حدث العراق قد غطى على ما جرى في أفغانستان، فإن الوضع الأفغاني ليس مستقراً على الإطلاق. وصورة أميركا هناك مثل صورتها في باكستان. القوات الأميركية في مواجهات مع الناس الذين يعيشون أزمة ثقة وكره للسياسة الأميركية في بلادهم وخارجها. كذلك فإن تفتيت العراق سيكون بداية مسلسل يستهدف إيران أيضاً، وثمة تحركات في تلك البلاد واضحة من قبل قوى تمثل أقليات محرومة أو مضطهدة باتت ترفع الصوت للمطالبـــة بحقوقها. كذلك فإن هذا الخطر سيستهدف سوريا وكل المنطقة المحيطة بالعراق. ولذلك فبقدر ما نتحدث عن فشل أميركي وسقوط صدقية وتحمل الإدارة الأميركية المسؤولية عما يجري، بقدر ما نتطلع إلى الدول المحيطة ونراقب تعاطيها مع الأوضاع وتطوراتها، لنقول: إن من يعتقد أنه بلعبة الابتزاز المستمرة مع القوات الأميركية في العراق، بل مع هذا الشر لنكون واضحين، ومحاولات الاستغلال وتعميم "إرهاب" تحت عنوان مقاومة الاحتلال، فهو عن قصد أو غير قصد شريك في لعبة الشر ولعبة التقسيم، ويحقق أخطر الخيارات التي يتحدث عنها بعض الأميركيين للخروج من مآزقهم. أما الحكمة والوعي والإدراك والعقلانية والتقاط اللحظة المؤاتية لتحقيق نوع من الاتفاق أو التسوية في الداخل العراقي، وبين العراقيين للأميركيين بشراكة تامة مع دول الجوار، هذه السياسة هي التي يمكن أن تؤدي إلى إنقاذ الوضع. وهذا ما تعبر عنه بكل دقة القيادة السعودية المدركة لكل المخاطر المحدقة بالمنطقة والأوضاع المحيطة بها. المعادلة التي تحكم الجميع الآن للأسف هي: بقاء قوات الاحتلال في العراق مشكلة، وانسحابها مصيبة. لمعالجة المشكلة وتدارك المصيبة لابد من خيار العقلانية!