ربما تكون إدارة بوش قد لاحظت بدايات العرض البطيء التدريجي لمشهد هجوم "تيت" الأميركي على فيتنام عام 1968, علماً بأنه المشهد الموازي لحربها الدائرة الآن على الإرهاب. وعلى الأرجح أن تؤول حرب العراق الراهنة إلى المآل نفسه, أي إلى تبديد ثقة عامة الجمهور الأميركي في الحرب أولاً, ثم في ولاية الرئيس بوش نفسها. فوتائر العنف العراقي تواصل تصاعدها بدأب وانتظام. وكما نرى فقد استدعت موجة العنف الأخيرة التي شهدتها محافظة الأنبار, نشر لواء مدرعات مؤلف من جنود الاحتياط الأميركيين المرابطين في دول الجوار. وفي الوقت ذاته, نشرت تقارير جديدة عن فظائع وانتهاكات مريعة فاضحة لحقوق الإنسان, ارتكبتها قوات "المارينز" هذه المرة في العراق. والشاهد أن هذه الانتهاكات الجديدة إنما صدرت عن أفضل القوات الأميركية تدريباً ومهنية, إلا أنها دُفعت إلى ما يتجاوز طاقتها وقدرتها على الاحتمال, فيما بدا عنفاً عراقياً شرساً يصعب قمعه وإخماده, يستهدف في الأساس إزالة قوات الاحتلال الدولي بقيادة أميركا. ومن جانبها تدعي الحكومة العراقية الجديدة, كذب الولايات المتحدة بشأن جرائم القتل التي ارتكبتها قوات "المارينز" بحق مدنيين عراقيين, وتطالب بإجرائها تحقيقاً مستقلاً حول تلك الجرائم من ناحيتها. أما في أفغانستان, فقد اندلعت موجة شعبية عارمة معادية لأميركا, إثر وقوع حادث مروري في العاصمة كابول, أسفر عن تنفيذ سلسلة من الهجمات السريعة على الجنود الأميركيين, وكذلك على المواقع والمرافق الأجنبية والأميركية على حد سواء. والنتيجة النهائية هي مصرع ما يزيد على عشرة مدنيين, وإصابة عشرات آخرين منهم. وفي جنوبي أفغانستان, وخاصة في المناطق المتاخمة للحدود الباكستانية, تنشط قوات "طالبان" في إعادة تنظيم صفوفها, وشن هجمات عسكرية منظمة وشرسة ضد القوات الأميركية وحلفائها. هذا ويتوقع لها أن تشمل قوات حلف "الناتو" التي ستحل قريباً محل تلك القوات. إلى ذلك تتواصل وتزداد إضرابات السجناء عن الطعام في سجن غوانتانامو, مما يضطر السلطات لإرغامهم على الأكل عنوة, وبالتالي ينشأ المزيد من أعمال الفوضى والاضطرابات داخل تلك المؤسسة. وفجأة تحول ذلك السجن البغيض الوحشي الذي ابتدعته الإدارة الأميركية, إلى مؤسسة منفلتة عن سيطرة "البنتاغون", ومثيرة لاستهجان وغضب البريطانيين والأوروبيين, ولشجب المنظمات الطوعية الدولية, والأمم المتحدة أيضاً. وغني عن القول إن الأميركيين من حقهم أن يتساءلوا عما إذا كانت مثل هذه التدخلات والسجون والانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان باسم الحرب على الإرهاب, ستجعل بلادهم أفضل وأكثر أمناً وسلاماً! وكل الذي يبدو الآن مرئياً في واقع الرفض اليومي لهذه الممارسات, إنما كان واضحاً ومرئياً من قبل. فما يجري في كل من العراق وأفغانستان وسجن غوانتانامو, ليس إلا انعكاساً لاضطهاد وتحقير قوات الاحتلال لشعوب ومواطني الدولتين المحتلتين. ومن الطبيعي أن تجلب الممارسات إياها الخزي والعار للقوات المحتلة, في ذات الوقت الذي تلهب فيه مشاعر العداء والكراهية والرغبة الجامحة في الانتقام من المحتل, في نفوس المحتلين. ومن الجيد أن دورية "الإرهاب والعنف السياسي"، وهي دورية ربع سنوية أميركية بريطانية, نشرت في عددها الأخير مقالاً مهنياً محترفاً كتبته فيكتوريا فونتان, الأستاذة بجامعتي كولومبيا، وصلاح الدين بالعراق, أوردت فيه مقتطفاً لأحد الرقباء الأميركيين جاء فيه: "لقد ظللنا نقول لمسؤولينا وقادتنا إن هذه ليست الطريقة المثلى التي ينبغي أن تدار بها العمليات في العراق, غير أنهم لا ينصتون لما نقول, ويواصلون مطالبتنا بالحزم والتشدد في التعامل مع المواطنين. وبذلك فإن قيادتنا هي التي تفصل ما بيننا والمواطنين المحليين. وللسبب عينه فنحن نقتل من جانبنا, ونظل عرضة للقتل المستمر من جانب العراقيين". هذا ويعود ذلك المقتطف إلى عام 2003, أي إلى الفترة اللاحقة للغزو وبدايات الاحتلال الأجنبي لذاك البلد. أما المصدر الحقيقي لكل هذه الممارسات, فيعود إلى وهم إدارة بوش الحالية، والقائل إن كل البشر أحرار وديمقراطيون بالفطرة والطبيعة, وإنهم بحاجة إلى أن تأخذ واشنطن بيدهم وتحررهم من أغلال العبودية التي رسفوا فيها! وكما تابعنا, فقد أشارت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية, في شهر يناير من العام الجاري, إشارة خفية إلى طموح الإدارة لاستبدال النظام الدولي القائم الآن على تضامن وإجماع الدول المستقلة ذات السيادة والعضوية في المنظمة الدولية, بنظام دولي جديد يقوم على تحالف دولي واسع من الديمقراطيات, تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية. وفي تصور الإدارة أن هذا النظام سيكون قادراً ليس على الحلول محل الأمم المتحدة فحسب, وإنما على جعل كافة المجتمعات الدولية ديمقراطية وحرة! ذلك هو الوهم الذي صنعته إدارة بوش في موازاة واقع عيني يقول إن العلاقات الدولية ليست شيئاً آخر عدا القدرة على الطفو في صدر أمواج البحر المتلاطمة المضطربة, وحماية القيم الإنسانية والحضارية ضد المعتوهين والطغاة والحكام المهووسين. لكن ما أن انقشعت غلالة الوهم "المثالي الويلسوني" عن عيون الإدارة, ورأت الواقع على حقيقته كما هو, حتى ركن متشددوها من أمثال نائب الرئيس ديك تشيني, إلى القوة وحدها ولا شيء سواها, حتى يبلغوا بأهدافهم نهاياتها المرجوة. وللعلم فإنه لا علاقة لتحقيق النصر والفوز في الحرب المعلنة على الإرهاب بهذه النهايات البتة. فالغاية الآن هي بلوغ عام 2008, حيث ستتحطم أوهام إدارتهم التي شيدوها, على عتبات رئيس أميركي جديد يحل محلهم عندها في البيت الأبيض. وعلى الرغم من كل ذلك التعويل على القوة, إلا أن الذي تبين الآن هو أنها لا تؤدي مفعولها المراد لها, بل تفعل العكس تماماً. ولذلك فلم يعد في وسع واشنطن الحصول على ما تريده, سواء في العراق أم أفغانستان أم الصومال, حيث لا تكف عن التدخل ورعاية القبائل والجماعات المناوئة والمتحفزة لمهاجمة التيار الأصولي. وها نحن نراها وكأنها على وشك شن هجمة مشابهة على إيران. وكم ستكون فرحة إسرائيل على وجه الخصوص لو أنها فعلت! والنتيجة النهائية المريرة, عجز القوة الأعظم في عالمنا, عن نيل غاياتها ومآربها من الضعفاء. بل تبين أن للضعف فاعلية أكبر من القوة, على نحو ما يبدو جلياً في العراق وأفغانستان. وبعد فهل تنقشع غلالة الوهم من أمام عين الإدارة؟ مهما يكن فما من شك الآن في أن حرب بوش على الإرهاب, قد تحولت إلى حرب دولة واحدة معزولة لا ينهج نهجها، لا الحلفاء ولا الأعداء! ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "ميديا تريبيون سيرفيسز"