حشد الشيخ القرضاوي جمعاً من العلماء وقادة "حماس"، أبرزهم خالد مشعل ممثل حماس "الخارج" أو "الفنادق"، حسب تصنيف شاكر النابلسي، وهم "صقور" حماس، في مقابل "حماس" الداخل "البنادق"، اجتمعوا بالدوحة 10-11 مايو، في "ملتقى علماء المسلمين لنصرة شعب فلسطين". وكان الهدف الظاهري جمع التبرعات لشعب فلسطين، وكان الهدف الحقيقي دعم حكومة "حماس" الموشكة على الانهيار بعد أن وصلت الأوضاع إلى حالة من الفوضى والانحدار لم تبلغها من قبل. توالت الأزمات وأصبحت القضية على كف عفريت، حسب تعبير عباس وعادت إلى نقطة الصفر. كان الهدف الرئيسي للملتقى تقديم الدعم الشرعي والفتاوى المساندة لـ"حماس"، وأصدر الملتقى بياناً يدعو للتبرع وهدد بمقاطعة المصارف التي تمتنع عن تحويل الأموال إلى "حماس". ولكن المفارقة اللافتة، غياب الممثل الشرعي الوحيد عن مؤتمر شعاره نصرة فلسطين، لقد أدركت "فتح" مبكراً أن الهدف نصرة "حماس" فآثروا عدم الحضور. ولاحظ المراقبون أن من حضروا هذا الملتقى تجمعهم (3) عناصر مشتركة: 1)- دعم "حماس" في رفضها المطالب الدولية الثلاثة: نبذ العنف، الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، الالتزام بالمواثيق الدولية المبرمة، ومساندتها في رفض المبادرة العربية للسلام. 2)- تبنّي فتوى الشيخ القرضاوي بمشروعية العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، بمن فيهم النساء والأطفال واعتبارها "أسمى أنواع الجهاد"، وقال: "إذا كان الغرب يمتلك القنبلة النووية فنحن نمتلك القنبلة البشرية". يحلل قتل المدنيين الإسرائيليين بأنه (لا فرق بين مدني وعسكري في إسرائيل لأنهم كلهم مجنّدون)، وهو نفس التعليل الذي برّر به فتواه في نقابة الصحافيين المصريين (31/8/2004) وقال فيها "قتال الأميركيين المدنيين في العراق واجب، لأنهم جميعاً محاربون". وعندما اشتدت الحملة عليه اتهم "الموساد" وأعداء الإسلام بأنهم حرّفوا كلامه، ولكنه عاد في المؤتمر الصحفي بعد (10) أيام ليبرر الفتوى، بأن "كل مدني له علاقة بالعسكريين يجب قتاله، لأن الخدمة التي يؤديها المدني للعسكري ليست خدمة مدنية"، وهو تبرير يؤكد الفتوى ولا ينفيها كما ظن البعض. لقد فتحت هذه الفتوى الخطيرة باب الشرور وسفك دماء المدنيين على مصراعيه، لأنه ما من أحدٍ في العراق -عدا الإرهابيين- إلا وله علاقة ما بالقوات الدولية (وهي في نظر الشيخ القرضاوي قوات محتلة)، وكل هؤلاء يستحقون القتل ابتداءً من الطباخين والخدم والسواقين، مروراً بالحرفيين والتجار وانتهاءً بقوات الشرطة والأمن العراقية بل حتى الحكومة العراقية التي تتعامل مع القوات الدولية. 3)- جميع من حضروا هذا الملتقى يمتازون بسمة أساسية بارزة: كراهيتهم الشديدة لأميركا وعداؤهم العميق لها، وكلهم دعاة وناشطون في حركة مقاطعة البضائع الأميركية وديمومة الصراع مع الغرب وأميركا. الآن انتهى هذا الملتقى، فما الذي حققه للقضية؟! وهل كنا بحاجة لمؤتمر وفتاوى دينية حتى نساعد الفلسطينيين؟! في تصوري أن سلبيات الملتقى أكبر من إيجابياته، وأولى تلك السلبيات أنه مؤتمر وظّف فيه الدين لدعم فصيل سياسي "حماس"، ضد فصيل آخر هو الممثل الشرعي المعترف به عربياً وعالمياً "منظمة التحرير"، وهو أمر معتاد من قبل مشايخ الإسلام السياسي في توظيفهم منابر المساجد والفتاوى لخدمة توجهات سياسية معينة. ولعلنا نتذكر خطبة الشيخ القرضاوي (يناير 2002) التي طالب فيها عرفات بالتنحِّي، مما دعا عبدالرحمن الراشد أن يعلق في عموده بقوله: "لا يجوز التحريض على رئيس دولة من على منبر دولة أخرى، كما لا يجوز للإمام أن يحوّل رأيه السياسي إلى خطبة صلاة". وعندما قيل له إن (لحوم العلماء مسمومة)، قال: (وهل لحومنا هامبرغر وشيش كباب)؟! والسلبية الثانية لهذا الملتقى، هي دفع "حماس" لمزيد من التصلُّب، باعتبار أن هذا التصلب هو الموقف الشرعي الوحيد والجائز في القضية، والذي لا يجوز التنازل أو الخروج عليه، وأن ما كانت تفعله السلطة السابقة من تفاوض مع إسرائيل يمثل تفريطاً في "الثوابت" و"الحقوق". وتتضاعف هذه السلبية إذا علمنا أن الجهود العربية والدولية كلها تصب في السعي لإقناع "حماس" بإبداء شيء من المرونة والقبول بمبادرة السلام العربية والتي بدت "حماس" (الداخل) مترددة في قبولها، يأتي هذا الملتقى ليقطع الطريق أمام أي أمل في قبول "حماس" للمبادرة. وهذه هي السلبية الكبرى، وهي الهدف الأكبر لعقد مثل هذا الملتقى في هذا التوقيت، يؤكد هذا الأمر، موقف "حماس" من دعوة عباس للحوار الوطني بهدف الوصول إلى الحد الأدنى المشترك بين الفصائل، وإلا كان الاستفتاء. لقد كان واضحاً موقف "حماس" المتصلب وردها على عباس (لو صوّت كل الشعب على التنازل عن شبر فهذا تصويت غير شرعي، لأن فلسطين أرض مقدسة للمسلمين كلهم منذ النبوة). تُرى من يستطيع الآن محاورة "حماس" وقد حصّنت موقفها السياسي بالدعم الشرعي لملتقى علماء المسلمين بالدوحة؟! آلاف القتلى والجرحى وأكثر من (7) آلاف أسير في السجون الإسرائيلية، وتدمير البنية الأساسية من طرق وتعليم وصحة، وهدم مساكن ومصادرة أراضٍ وبطالة وصلت 50% وهدم مطارات وموانئ، وتعطيل خدمات النقل والانتقال، غير آلاف الملايين التي أهدرت على القضية وحروب أربع، وغير تكلفة الفرص الضائعة في التنمية العربية بسبب فلسطين. كل ذلك لم يفلح في زحزحة القناعات الأيديولوجية لهؤلاء العلماء نحو إبداء بعض الواقعية في المواقف السياسية وإسداء النصح المخلص لـ"حماس" بقبولها المبادرة العربية! لا أحد يرضى بتجويع الشعب الفلسطيني، ومساعدته حق وواجب ولم تبخل الدول العربية والشعوب العربية قط، كيف وهم يسارعون إلى نجدة الشعوب الأخرى؟ ولذلك لم نكن بحاجة إلى عقد ملتقى لإصدار فتاوى بالتبرع والمساعدة! ولكن أليس من حق الشعوب والدول العربية أن تفتح الملفات؟ أين ذهبت الملايين؟ أليس من حق الخليجيين وهم أكبر المانحين، أن يتساءلوا أين ذهبت الأموال باسم الجهاد والمقاومة؟! ثم أين أثرياء فلسطين ورجال الأعمال؟ لماذا لم ينشئوا صندوقاً للمساعدة؟! وهل كُتب على الشعب الفلسطيني الصابر أن يعيش على المعونات والتبرعات؟ وإلى متى؟ وهل أصبحت وظيفة حكومة "حماس" التنقل من بلد إلى آخر لاستجلاب المساعدات؟! لقد أبدع الفنان الكويتي عبدالوهاب العوضي حين رسم كاريكاتيراً عن حكومة "حماس" فجعل من نهاية حرف (س) وعاءً للتبرع "القبس، 24/4". هذه الصورة المعبرة تلخّص الوضع المأساوي للفلسطينيين تحت حكم "حماس". والسؤال الآن: إلى متى التصلب وركوب الرأس والعنتريات؟! إلى متى المكابرة والشعب لا يجد ما يعتاش عليه؟! إلى متى يستمر هؤلاء في تحدي العالم بالفتاوى والمؤتمرات والقنابل البشرية؟! وهل هذه هي الطريق لمساعدة الفلسطينيين؟! وهؤلاء الذين هددوا البنوك، هل هم جادون حقاً؟ ماذا يعتقدون؟ وهل تستطيع البنوك الرضوخ لتهديداتهم وهي محكومة بنظام دولي يحدد آلية دولية معترفاً بها لتوصيل المساعدات؟! "حماس" كانت بحاجة إلى من يبصرّها بالأرضية التي تقف عليها، لا من يزين لها ويشجعها على مزيد من التأزم.