ذهب إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى وشنطن لسببين معلنين: الحصول على موافقة إدارة بوش على خطة للانسحاب الأُحادي من الضفة الغربية، والتوصل خلال ثلاث سنوات "لتحديد حدود الدولة الإسرائيلية"، والمسألة الثانية: الملف النووي الإيراني وتأثيراته على أمن إسرائيل، ومطالب الدولة العبرية بشأنه، بل وأفكارها حول سُبُل حلّه. وهنا مرةً أخرى تبدو الدولة العبرية في حال انكفاءٍ أو انسحاب، رغم الممارسات اليومية العنيفة ضد الفلسطينيين، والتهديدات العنيفة التي تتبادلُها مع إيران منذ حوالي السنة. فقبل خمس سنوات انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان، وبعد أربع سنواتٍ ونصف انسحبت تحت غطاءٍ كثيفٍ من النيران من قطاع غزة، وهي تعرضُ الآنَ، لكنْ ليس على العرب ولا على الفلسطينيين، بل على الولايات المتحدة انسحاباً من الضفة الغربية. وإلى جانب الانسحاب الأَحادي الثاني هذا خلال عامٍ ونيّف، تنتقل إسرائيلُ من تهديد إيران إلى الشكوى من تهديدات الملفّ النووي، وتهديدات محمود أحمدي نجاد بإزالة الدولة المغتصِبة من الخريطة. وهي تأمُلُ لذلك أن لا تسمح إدارة بوش (رغم تحصينات إيران القوية بالعراق ولبنان وسوريا) بتسويةٍ، أو أن لا تدخُلَ في تسويةٍ تمكّن إيرانَ من تملُّك القدرات النووية السلمية أو غير السلمية، في ظلّ التشدد الديني للقيادة الإسلامية الإيرانية، والثَوَران الإسلامي في المنطقة. وهكذا فإسرائيل- وهي تؤكد استحالة قَبولها بتمُّلك إيران للقُدُرات النووية- تتراجعُ لتضع نفسَها وراء الولايات المتحدة التي تريدُ منها أن تكونَ هي التي تتصدى للمشكلة النووية، وليس إسرائيل وسلاحها الجوي وصواريخها، كما حدث في مناسباتٍ سابقةٍ حينما أغارت على العراق وتونس ولبنان وسوريا، مدعية وجود ما يُهدّدُها هناك. بيد أنّ الأخطَر والأَبرز من الانسحاب من الضفة- والذي يقال إن الولايات المتحدة مترددةٌ بشأنه- وضع أولمرت له في سياق خطته "لتحديد الحدود النهائية لإسرائيل"! إنّ أقلّ ما يُقالُ لهذه الجهة أنّ "تحديد الحدود" يشكّل نهايةً لمفاهيم المشروع الصهيوني الكلاسيكي التوسُّعي، والذي بمقتضاهُ ما كان مقبولاً ولا ممكناً تحديد الحدود، لعلاقة ذلك بالميتافيزيقا الباقية للأرض الموعودة من جهة، ولإرهاب العرب وإرعابهم من جهةٍ ثانية. هناك تحديداتٌ دقيقةٌ للهوية، ولمن هو اليهودي وبالتالي الإسرائيلي. ولكن ليست هناك حدودٌ للكيان ودولته بالنظر للوعد، وبالنظر للأمن. فبالإضافة إلى السياسة العسكرية التوسُّعية منذ عالم 1948 ( الاستيلاء على النقب رغم مخالفة ذلك لقرار التقسيم الدولي) وعبر أربعة عقودٍ ونيّف (هذا ونحن لم نتعرض للطبيعة الاستيلائية والإحلالية للمشروع الصهيوني ذاته)، جاءت الهواجسُ ثم الهَوَس التكبُّري الأمني، والذي دفع بعض العسكريين الإسرائيليين إلى وضع الأمن الاستراتيجي للدولة العبرية في ما بين جبال الهمالايا وآسيا الوسطى وروسيا وإيران وجبل طارق. يبدو أنّ كلَّ تلك المقولات التي حكمت قيام الدولة اليهودية، ومسار تطور علاقاتها بمحيطها، بل وسياساتها الداخلية تجاه مختلف فئاتها ومكوّناتها؛ كلُّ ذلك يتعرض للتعديل والتغيير فيما يشبه انكفاءً أو إعادة تموضُع، يبدو أنَّ اعتباراتٍ داخليةً واستراتيجيةً تحكُمُه، وليس مشكلات المحيط العربي وإشكالياته، أو أنّ ذلك لا يشكّل الاعتبار الأول. في ما بين التعملُق العسكري الإسرائيلي عام 1967 وغزو لبنان عام 1982، بدأت كتاباتُ المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين توزعوا على عدة موضوعات: موضوع قيام الكيان الصهيوني والفظائع المرتَكَبة بحق الفلسطينيين، وموضوع الهوية اليهودية للدولة وماذا تعني، وموضوع تأثيرات الغزوات الإسرائيلية على الهوية الدينية والسياسية للكيان، وأخيراً موضوع تحكُّم الاعتبارات الأمنية وحدها في العلاقة بالفلسطينيين والدول العربية. ولا شكَّ أنّ هذه النقاشات أثّرت في النُخَب وليس في الرأي العامّ. بيد أنّ ما أثر في الجميع بين الثمانينيات والتسعينيات ثلاثة أمور: أولها أنّ الكيان الإسرائيليَّ لم يَعُدْ مهدَّداً من المحيط، بسبب السلام مع مصر، والضعف العربي العام. والأمر الثاني: أنّ الإصرار على البقاء في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 سيزيد من أعداد العرب خلال عقدين ما يضعف الهوية اليهودية للدولة. والأمر الثالث أنّ هناك نمواً مستداماً في الاقتصاد، وتقدماً في الدولة، وقد غيّر ذلك من أفكار الشباب المتعلمين وتوقُّعاتهم؛ وأنه قد آنَ الأوانُ للإفادة من النمو والتقدم في المنطقة والعالم. فحتى التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية صارت مطلوبةً ومرغوبة، فضلاً عن الزراعة المزدهرة، ومنتجات التقنية المتقدمة، واقتصاد الاستثمار والخدمات الهائلة، والذي ما عاد يتلاءمُ واقتصادَ الحرب والغزو، والتكاليف الباهظة لذلك. إنّ هذه العواملَ مجتمعةً هي التي قادت إلى الموافقة على الدخول في مفاوضات مدريد وأُوسلو، وهي التي أنتجت كتباً على شاكلة كتاب شيمون بيريز مطلع التسعينيات عن "الشرق الأوسط الجديد" الذي يسودُ فيه الاعتمادُ المتبادَلُ بين إسرائيل وجيرانها العرب والمسلمين والأوروبيين. صحيحٌ أنّ هذه الآمال والسياسات خابت جزئياً في تأزُّم تطبيق اتفاقية أوسلو، ووصول شارون للسلطة، ونشوب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ثم انتشار التوتر الهائل والمستمر بالمنطقة والعالم نتيجة أحداث 11/9/2001 وغزو أفغانستان والعراق- لكنّ الدوافعَ لسياسة الانكفاء أو إعادة التموضع الإسرائيلية لم تتغير: الثقة بأنه ليس هناك تهديد وجودي للكيان الإسرائيلي، والإصرار على الاحتفاظ بالطابع اليهودي الغالب للدولة العبرية، والإفادة من الميزات التفاضُلية للتقدم الاقتصادي والتكنولوجي والاستراتيجي الإسرائيلي. الذي تغيَّر بالفعل: شركاء الاعتماد المتبادَل، وشركاء الودّ والتقدم والانفتاح. ما عادت النخبة الإسرائيلية تُقيمُ وزناً كبيراً للتعاون الاقتصادي مع العرب الذين رغم كل شيء لم يندفعوا من أجل ذلك. وما عادت تريد تواصُلاً مع الفلسطينيين، الذين ما أظهروا اندفاعاً في إقامة شراكةٍ (مفروضة أو مفترضة بعد قيام الكيان الفلسطيني). ولذلك يأتي السور الواقي أو جدار الفصل ليحمي إسرائيل من "الإرهاب" الفلسطيني، ومن الكثرة الفلسطينية، وينصرفُ الإسرائيليون لاستثمار نتائج تقدمهم في العلاقة بأوروبا وبالولايات المتحدة... وبالصين والهند... وتركيا. فالانسحاب من مواقع الغزو والسيطرة خيار استراتيجي، والانسحاب إلى ما وراء السور الواقي إعراضٌ عن الخيار الفلسطيني والعربي، والاندفاع باتجاه أوروبا وأميركا وشرق آسيا وتركيا وآسيا الوسطى، رؤيةٌ أُخرى للمستقبل الموعود والموجود. إنّ هذا كلَّه لا ينبغي أن يُخفي الجانب الآخَر أو جانبَ الظلّ لهذه السياسات، والذي قد يؤدّي لفشل الانكفاء والاكتفاء أو التحول عنه. فالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان ما اكتمل. وإسرائيل باقيةٌ حتى الآن في الجولان. والنزاع مع الفلسطينيين مستمرٌّ حول المستوطنات والقدس والحدود واللاجئين- وهذا بعد الانسحاب المتحقق من غزة، والمفترض من الضفة الغربية. والتهديد الإيراني والثوران الإسلامي من حول إسرائيل، قد يثيران من جديد الهاجسَ الأمني. إن المشهد الحاليَّ بالمنطقة مُثيرٌ للقلق فعلاً، وهو مرتبطٌ إلى حدٍ كبيرٍ بردود الفعل على سياسات الولايات المتحدة وحروبها الباردة والساخنة والسرية والعلنية. لكنّ مهاجمة إسرائيل ليست أَولويةً إيرانية. كما أنّ الحركات الإسلامية مشكلتها مع حكوماتها، قبل أن تكونَ مع إسرائيل. ولذلك أُرجّحُ أن لا تتغير الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة- دون أن ينفي ذلك احتمال قيام إسرائيل بضربات موضعية خارج فلسطين بالتنسيق مع الولايات المتحدة، واستمرار سياسة العسف والنيران الكثيفة تجاه الفلسطينيين لتغطية الانسحاب إلى ما وراء السور الواقي، والاحتفاظ بالقدس والكتل الاستيطانية الثلاث. في المنتدى الاقتصادي الدولي بشرم الشيخ، عاد شيمون بيريز ليطرح على رجال الأعمال الفلسطينيين والعرب مشروعَهُ للاعتماد المتبادَل، باعتبار ذلك حلاًّ للمشكل الاقتصادي الفلسطيني والعربي. وأجابه هؤلاء بشبه إجماع: لا مشكلة لدينا غير الاحتلال الإسرائيلي! وغضب بيريز وأجابهم مؤنّباً: لو تعاملتُم بجديةٍ مع عملية السلام لزال عنكم الاحتلال منذ سنوات، ولكانت عندكم دولة، واقتصاد، ولما احتجتم لمناشدة أوروبا وأميركا لكي تتفهما مشكلاتكم. لقد خضعتم بدلاً من ذلك للمتطرفين، وتحصدون اليومَ نتائج ما فرّطتم فيه! يعتقد الإسرائيليون أنهم يسيرون في طريق التلاؤم مع المتغيرات، وباتجاه تحقيق أهداف الألفية؛ فهل يكونُ ذلك صحيحاً؟ وإلى أين يسير الفلسطينيون والعربُ والإيرانيون؟!