ما تبقى من سور الصين العظيم اليوم هو 1,616 ميلاً, وهو لا يزال يجسد أطول وأكبر طموح دفاعي حققته البشرية على امتداد تاريخها الطويل. بيد أنه وعلى رغم عظمته وأسطورته الخارقة, لم يصمد عام 1213 عندما اجتاحت جحافل المغول- بقيادة جنكيز خان- الصين قفزاً على ذلك السور, محققة انتصارها التاريخي الشهير. وبالمثل خاب سور "ماغينوت" الذي بناه الفرنسيون بالأسمنت المسلح وحموه بالمدفعيات الثقيلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى, تحسباً لأي هجمات ألمانية محتملة على أراضيهم لاحقاً. ولكن الذي حدث باندلاع الحرب العالمية الثانية, هو التفاف الجيوش الألمانية حوله, وصولاً إلى بروكسل وقلب العاصمة الفرنسية باريس! وفي لحظة مشابهة فقد انهار حائط برلين في عام 1989, علماً بأنه كان قد بني في عام 1961 وكلف أرواح الكثيرين ممن راودهم حلم الهروب والفرار من ألمانيا الشرقية. وعلى امتداد آلاف السنين, حاولت أمم شتى عزل نفسها عن البقية ببناء الجدران والأسوار الشاهقة. لكن وبصرف النظر عن سمك تلك الأسوار وطولها وارتفاعها, فهي لم تقدم أدنى ضمانة ضد طموحات وأطماع الغرباء المتخيلين أو الأعداء الحقيقيين. وسواء طال الزمن أم قصر, فقد جرى اختراقها وتخطيها, وآلت إلى السقوط في نهاية المطاف. وبالمنطق والعبرة ذاتهما, سينهار يوماً جدار العزل الأمني الذي تعكف إسرائيل على بنائه الآن في الأراضي الفلسطينية. وسوف يأتي وقت يبحلق فيه السياح والزائرون للأرض المقدسة, في أحجار وحطام ذلك الجدار, مثلما فعلوا بحائط برلين وغيره. ذلك أن الحقيقة العارية التي لا مناص من الإقرار بها, أن تلك الجدران سواء بنيت لمنع الغرباء أم لدرء خطر العفاريت والتنين والكواسر, أم لصد مروجي وبائعي المخدرات, أم لوقف الإرهابيين أم العمالة الرخيصة المهاجرة, أم لإبعاد الغرباء من ذوي الأجناس والألوان واللهجات غير المألوفة للمواطنين الأصليين, فهي جميعها لا تفعل شيئاً عدا صب الزيت في نيران الشك والكراهية والوسوسة عند الآخرين. ولهذا السبب فهي تتشقق من داخلها وتتآكلها تلك الوساوس فتهوي وتتهدم يوماً. وآخر أفكار هذه الجدران ما برز هنا من اقتراحات بتشييد جدار طوله 1,945 ميلاً على امتداد الحدود الفاصلة بين الولايات المتحدة والمكسيك. وربما تجد هذه الفكرة لها صدى في نفوس أعضاء "مجلس دوريات الحدود" لكونه يساعد في صد ما وصفوه في أحد المواقع الإلكترونية غير الرسمية على أنه "هجمات غير شرعية" من قبل المهاجرين, على الأراضي الأميركية. بيد أن التفكير العقلاني يطالبنا بإعادة النظر في الأمر كله. وفي هذا الاتجاه, فربما كان من الأفيد ضخ الاستثمارات في الاقتصاد المكسيكي, وتشجيع السكان هناك على الاعتقاد بوجود مستقبل يستحق البقاء من أجله في جنوبي الحدود الأميركية. وهكذا يمكن تفادي بناء حاجز وهمي بين منطقة المحيط الهادئ وخليج المكسيك. وإن كان الهدف هو وقف تدفقات المهاجرين المكسيك غير الشرعيين إلى الأراضي الأميركية, فدعنا نقف قليلاً مع شواهد التاريخ في هذا الأمر. ففي عام 122 ميلادية رعت الإمبراطورية الرومانية بناء "سور هادريان" بتكلفة مالية باهظة, بهدف حماية بريطانيا المزدهرة والمسالمة وقتئذ, من هجمات وغزوات القبائل الوحشية البربرية القادمة من كالدونيا شمالاً. بيد أن ذلك السور قد فلت عزيمته تحت وطأة هجمات تلك القبائل, فانهارت الإمبراطورية الرومانية كلها على عروشها, ليس في الجزر البريطانية وحدها, وإنما على امتداد القارة الأوروبية كلها! ليس ذلك فحسب, بل إن الحقيقة أن حكومة رئيس الوزراء البريطاني الحالي, يسودها ساسة جاء معظمهم من شمالي سور هادريان التاريخي. وبالمثل فربما تكون لنا حكومة أميركية يوماً, ينحدر رئيسها من أصول مكسيكية! والشاهد أن حائط برلين لم يتحول إلى رمز مجسد للحرب الباردة, إلا لكونه بني أساساً لسجن الألمان الشرقيين في الداخل, وليس لمنع القادمين إلى ألمانيا من الخارج. ولنذكر أنه وقبل عشرة أشهر فحسب من انهياره, كان المستشار الألماني الشرقي إريك هونيكر قد أعلن إمكان صموده لمئة عام كاملة. أما اليوم فإن مجرد وجوده أصبح قصة من القصص التي تحكيها كتب التاريخ القديم. وكما حدثتنا وقائع وشواهد التاريخ, فما من أمة استطاعت الاختباء وراء سور ما, إلى أبد الدهر. ومع ذلك فها أنت ترى البعض وهو يهم ببناء الأسوار الشاهقة الطويلة لدرء عدو أو خطر ما. على أن الحقيقة تبقى أن في تعاوننا وفهمنا بل وحبنا للجيران, ما فيه ضمانة أطول عمراً لأمننا وسلامتنا, بما لا يقاس لأي استثمار عديم الطائل في جدران الأسمنت والأسلاك الشائكة. جوناثان جلانسي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر الهندسة المعمارية والتصميم بصحيفة "الجارديان" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست