في مقال سابق تحدثنا عن الترانسفير وكيف تجذر في الوجدان الغربي. ومن أكبر عمليات الترانسفير في التاريخ البشري عملية نقل ملايين الأفارقة من بلادهم وتوظيفهم كعمالة رخيصة شبه مجانية في الأميركتين. وقد تم اختطافهم وقُيدوا بالسلاسل وشحنوا شحناً في السفن في رحلة عذاب طويلة. وفي أحد موانئ تصدير العبيد في أفريقيا كان يوجد مكان على صخرة عالية يطل على البحر كان يفحص فيه الأسرى الذين تم خطفهم فمن كان منهم قصيراً أو طويلاً أو مُسناً كان يُلقى به في البحر، فتلتهمه أسماك القرش. وفي رحلة العذاب الطويلة "الترانسفير" من أفريقيا إلى الأميركتين، كان يقيد الأفارقة بالسلاسل ويضربون بالسياط. ومن كان يمرض منهم يلقى به في عرض البحر، لأنهم أصبحوا مادة استعمالية فقدت فائدتها. وحسب بعض الإحصاءات، في مقابل كل إفريقي يصل إلى الأميركتين كان عشرة أفارقة يلقون حتفهم، وحيث إن عدد الذين تم نقلهم هو حوالى عشرة ملايين فإن عدد الذين تمت إبادتهم بشكل مباشر حوالى مئة مليون (وهو عدد يفوق بمراحل الرقم الأسطوري ستة ملايين). وقد أدرك مُلاّك العبيد، من البداية، أنه كي يحولوا الأفارقة إلى مادة استعمالية لابد من ترويضهم وتدجينهم ومحو ذاكرتهم وتقويض هويتهم، أي لابد من نقلهم "ترانسفير" من الحالة الإنسانية إلى الحالة السلعية والشيئية، فكانوا على سبيل المثال يمنعون عبيدهم من أن يتحدثوا لغتهم أو يغنوا أغانيهم أو يمارسوا طقوس عباداتهم، ومن كان يضبط وهو يمارس مثل هذه العادات فإنه كان يعاقب أشد العقاب. وقد لاحظ ملاك الأراضي والعبيد في فيرجينيا بالولايات المتحدة أن "وليام لنش"، مالك العبيد في جزر الكاريبى، نجح تماماً في ترويض عبيده، فأرسلوا إليه ليستفيدوا من خبرته بأن يلقنهم فنون الإذلال والتدجين. حذرهم "لنش" من إعدام العبد المارق لأن في هذا تبديداً للثروة، فهو يعني فقدان يد عاملة، ومن ثم تبقى المحاصيل في الحقول بغير جني، مما يؤدي إلى خسارة مادية. ثم بدأ في إعطائهم النصائح اللازمة للإذلال حتى لا تُبدد المادة الاستعمالية وحتى يتم تطويعها. وحيث إن اللغة هي ما يميز الإنسان عن الحيوان الأعجم، فإن "لنش" نصح مُلاك العبيد بأن تمحى لغة العبيد الأصلية، وأن تطور لغة جديدة تكون مهمتها أن يفهم العبد ما يجب عليه القيام به فحسب، أي لغة عملية ليست لها أية أبعاد حضارية أو إنسانية. فاللغة الأصلية، على حد قول "لنش"، تصل إلى قلب الشعب المتحدث بها. ثم يضرب "لنش" عدة أمثلة ليبين خطورة تعليم العبيد اللغة: إن تعلم العبد الأفريقي لغة السيد الأبيض فإنه سيعرف أسراره وسيعرف أكثر مما يجوز، باعتباره عبداً ولذا يمكنه استغلال هذه المعرفة بعد ذلك. وإذا قلت لعبد يعرف اللغة جيداً: "يجب أن نحسِّن من حصد حاصلاتنا"، فإنه سيعرف أن لفظ "حاصلاتنا" لا تعني أنها حاصلات لنا فحسب، ومن ثم سينهار النظام العبودي لأنه سيدرك آلياته. و"إذا وضعت عبداً في مكان قذر (حظيرة خنازير) ودربته على أن يحيا ويقيم فيه باعتباره وسيلة كاملة للحياة، فلن يطالب بعد ذلك بمكان نظيف. ولكن إذا وضعت هذا العبد في نفس المكان القذر وزودته بمقدرة لغوية بحيث يمكنه أن يصف هذا المكان بأنه "قذر"، حينذاك ستنشأ مشكلة وستجده بعد ذلك في منزلك أنت". ومن آليات التدجين الأخرى البحث عن الاختلافات بين الزنوج ثم تضخيمها. "لا تنسى أن تضع الرجل الأسود العجوز ضد الرجل الأسود الشاب، والرجل الأسود الشاب ضد الرجل العجوز الأسود. يتعين أن تستخدم العبيد ذوي البشرة الداكنة ضد العبيد ذوي البشرة الأقل سواداً. ويتعين أن تستخدم الرجال ضد النساء، والنساء ضد الرجال. كما يجب الاهتمام بشكل خاص بالنساء والذرية. فالنساء مفيدات في استيلاد الأطفال، أما الذرية فهي أيدٍ عاملة مجانية جديدة". ويضيف "لنش" أن الحصان والزنجي لا يفيدان الاقتصاد في الحالة الطبيعية والبدائية، ولذا يتعين ترويضهما كجزء من عملية تنظيم الإنتاج. وبكلمات أخرى إن عملية الترويض هي ذاتها لكل من الحصان والزنجي والاختلاف هو اختلاف في الدرجة فحسب. ثم ينصح "لنش" مُلاك العبيد بزرع الشك في نفوس عبيدهم وبتقويض ثقتهم في أنفسهم. والعبد الأسود بعد أن يتم تدجينه وزرع مشاعر الذلة والهوان فإنه سيستبطنها وتصبح طبيعة ثانية بالنسبة له، وسيغذيها تغذية ذاتية، وسيولدها في نفسه لمئات من السنين. ولنلاحظ هنا أن الترانسفير أخذ شكلاً جسدياً في البداية (نقل الأفارقة إلى الأميركتين) ثم شكلاً معنوياً (تحويلهم إلى مادة استعمالية). ولكن الترانسفير ما هو إلا وجه واحد للرؤية النفعية المادية التي تحول الإنسان إلى مادة استعمالية والوجه الآخر هو الإبادة. وتعد العقيدة البيوريتانية (أو التطهيرية) puritan، عقيدة المستوطنين البيض في أميركا الشمالية، هي أولى الأيديولوجيات الإمبريالية الإبادية التي كانت تغطيها ديباجات دينية كثيفة. فكان هؤلاء المتطهِّرون يرون أنهم فروا من فرعون (البريطاني) و"خرجوا" من مصر (أنجلترا) ومكثوا في التيه (البحر) بعض الوقت، وأبرموا العهد مع "يهوه" على ظهر سفينتهم حيث وعدهم بأرض الميعاد، صهيون الجديدة، وإسرائيل الجديدة، والتي كانوا يشيرون إليها بأنها أرض عذراء، أي أرض بلا شعب. وكانوا يرون أنهم عبرانيون فضلهم الإله على العالمين، أما سكان الأرض العذراء التي مُنحت لهم فهم مجرد "كنعانيين" أو" عماليق" (وهذه مصطلحات إبادية، فالكنعانيون والعماليق في الخطاب التوراتي مصيرهم الإبادة وهي مصطلحات تشبه عبارة "الجماعات غير اليهودية" التي وردت في وعد بلفور إشارة للعرب). وكان "البيوريتان" يعتبرون أنفسهم "يهود الروح" أو"إسرائيل الحقيقية"، أما اليهود (أي الذين يؤمنون بالعقيدة اليهودية)، فهم "يهود اللحم والدم"، فقد تخلوا عن أحلام مملكتهم الموعودة. فالمستوطنون البيض كانوا "أكثر يهودية من اليهود" على حد قول الحاخام "لي ليثفنجر". وقد تقمص المستوطنون البيض في كل أرجاء العالم هذا الدور الإبادي للعبرانيين، أي أنهم أصبحوا الجلاَّد المقدس على حد قول "مايكل هولي إيجل" (من نشطاء الهنود الحمر) عام 1996، الذي لاحظ أيضاً التماثل بين الهنود الحمر والفلسطينيين، ففي كلتا الحالتين قام الغازي بكتابة تاريخ المهزومين بالحبر الأبيض، أي أنه قام بإلغاء تاريخهم، حتى يمكن إبادتهم، فالإنسان بلا تاريخ هو مجرد شيء يمكن توظيفه إن كان ذا نفع، كما يمكن التخلص منه إن كان عديم الفائدة.