هنا في فيينا, تبدلت حالة الطقس أخيراً من البرودة إلى الدفء. وسرعان ما اكتظت القاطرات والحافلات بالركاب الزائرين للمدينة. وفي إحدى تلك القاطرات, همست امرأة نمساوية بلكنة إنجليزية مكسرة لجارها في المقعد: "هل رأيت كم هي شابة هذه البنت التي ترتدي الحجاب؟ إنهم يشكلون لأنفسهم ثقافة خاصة مستقلة لا علاقة لها بثقافتنا النمساوية"! والجدير بالملاحظة أن هذا الشعور ليس حالة معزولة ولا خاصة بالنمسا وحدها. ففي وقت مبكر من شهر مايو الجاري, أعلنت "ليس بروكوب", وزيرة الداخلية الأسترالية, أن حوالى 45 في المئة من المسلمين المهاجرين يتعذر دمجهم اجتماعياً وثقافياً مع المجتمع الأسترالي, وأن عليهم اختيار وطن آخر لهم. أما في هولندا –التي تعد في مقدمة الدول الأوروبية نجاحاً في دمج المهاجرين, وأشدها انتقاداً للإسلام الراديكالي- فقد استقالت "أيان هرسي علي" من عضويتها في البرلمان, على خلفية الانتقادات التي تعرضت لها بسبب تزويرها للتفاصيل الخاصة بطلب اللجوء السياسي، الذي تقدمت به إلى السلطات الهولندية في عام 1992. إلى ذلك أجاز مجلس النواب الأدنى في البرلمان الفرنسي, مشروع قانون متشدد للهجرة الأسبوع الماضي, وهو قيد المصادقة عليه من قبل مجلس الشيوخ حالياً. وبذلك يمكن القول إن الجلبة الصادرة عن كبار مسؤولي الحكومات الأوروبية كلها, إنما تشير إلى إعادة القارة العجوز النظر في كونها "ملاذاً آمناً" للمهاجرين, وأن شكوكها قد تزايدت إزاء ارتفاع عدد المهاجرين الذين يفدون إلى بلدانها بقصد استغلال فوائد نظامها الاجتماعي ومبادئها وقيمها الديمقراطية. ولذلك فإن الاتجاه السائد حالياً في أوروبا هو محاولة فرض قيود على تدفق المهاجرين, على حد قول "فليب دو برويكور", مؤسس "شبكة أوديسا" لدراسات الهجرة واللجوء السياسي في أوروبا. وأضاف "برويكور" قائلاً "لكننا وفي الوقت ذاته، نؤكد احترامنا لحق المهاجرين في اللجوء السياسي ولإمكانية تقديم طلباتهم له على رغم وضعنا المصاعب والعراقيل أمامهم". وبعد يوم واحد فحسب من ذلك التصريح المثير للجدل, الذي جاء على لسان وزيرة الداخلية الهولندية في الخامس عشر من شهر مايو الجاري, أخطرت "هرسي علي", الصومالية الأصل, من قبل حزبها بأن جنسيتها الهولندية نفسها أصبحت محل شك وإعادة نظر بسبب تزويرها لبيانات الهجرة في عام 1992. إلى ذلك قالت وزيرة الهجرة "ريتا فيدرونك" –أو كما تلقب بـ"ريتا الحديدية" بسبب مواقفها المتشددة إزاء الهجرة- إن الفرضية الأساسية هي عدم اعتبار عضو البرلمان السابقة "هرسي علي", مواطنة هولندية في الأساس, إذا ما أخذنا في الاعتبار بأحكام وقوانين المحكمة العليا الهولندية. ومثار الخلاف والجدل الآن, البيانات الشخصية التي قدمتها "هرسي" في طلب لجوئها, فيما يتعلق بتزوير اسمها وعمرها, وقولها إنها هاربة من خطر الحرب الأهلية وليس إكراهها على الزواج كما هي القصة الحقيقية. وعلى الرغم من اعترافها بذلك التزوير منذ عام 2002, فإن فيلماً وثائقياً جديداً بث للتو, أثار حفيظة وردود فعل الشارع العام الهولندي, ضد النائبة البرلمانية السابقة, التي ظلت تحت حماية الشرطة على مدار اليوم, منذ اغتيال المخرج "تيو فان جوخ", بسبب سيناريو فيلم سينمائي كتبته هي حينها. وقد أثارت قضية "هرسي علي", ردود فعل أوروبية حادة ومتباينة على امتداد القارة كلها, خاصة بعد ما بدا التصريح المنسوب لوزيرة الداخلية الهولندية غريباً وباعثاً على السخرية والتهكم. غير أن الوجه الآخر لهذا الجدل, يكشف عن التحول المذهل الذي طرأ على أوروبا منذ بداية القرن الحالي, فيما يتصل بقوانين وإجراءات الهجرة في بلدانها. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية, تعهدت كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بتطبيق نصوص معاهدة جنيف وإنشاء ملاذات آمنة للمهاجرين. لكن مع ذلك, فقد كان مفهوماً عدم القدرة على الوفاء بهذه الالتزامات والمثل, إثر تدفق أعداد كبيرة من العمال المهاجرين خلال عقدي الستينيات والسبعينيات, اللذين شهدا تراجعاً وتباطؤاً اقتصادياً. وبالنسبة للمهاجرين المسلمين الذين تضاعفت أعدادهم بعد لمِّ شمل أسرهم –مع العلم بأن غالبيتهم تأتي من شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط- فقد ظل معظمهم متميزاً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً عن المجتمعات الأصلية التي وفدوا إليها وأصبحوا جزءاً منها. والملاحظ أيضاً أن صورة المهاجرين نفسها قد اختلفت, إذ لم يعد سهلاً التمييز بين الذين جاءوا من أجل العمل وتحقيق المكاسب الاقتصادية, وأولئك الذين جاءوا لحماية أنفسهم من مخاطر تهدد أمنهم وحياتهم في بلدانهم الأصلية. ولذلك فقد سادت النظرة إلى طالبي اللجوء السياسي باعتبارهم كذابين محتملين, على حد تصريح "جان بيير كازارينو", الباحث لدى الجمعية المتوسطية- الأوروبية للأبحاث التطبيقية في مجال الهجرة الدولية بمدينة فلورنسا الإيطالية. والشاهد أن أوروبا التي كانت قارة واحدة متجانسة ذات يوم, بدأت تظهر وتزداد فيها النزاعات بين السكان الأصليين والمهاجرين على نحو ملحوظ. وبالنتيجة, فقد عزز توافد أعداد كبيرة من المهاجرين الذين لا يتحدثون لغة المواطنين الأصليين, ويرفضون الاندماج ثقافياً معهم, أفكاراً لم يكن ينادي بها إلا "اليمين" المتطرف حتى إلى وقت قريب. ولعل هذا هو ما يفسر تحقيق الأحزاب "اليمينية" المتطرفة لانتصارات انتخابية كبيرة في كل من فرنسا وأستراليا وهولندا مؤخراً. سارة وايلدمان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلة صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" في فيينا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"