ما يحصل في الكويت منذ أكثر من عام ليس حالة استثنائية في إطار دول مجلس التعاون. على العكس هو حالة طبيعية، وأمر قابل لأن يحدث في أي من هذه الدول. ما يحصل في الكويت هو تعبير عما يمر به نظام الحكم في هذه الدول وهو ينتقل من مرحلة تاريخية إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر. انتهت مرحلة التأسيس، والجيل الذي ارتبط بهذه المرحلة يستعد الآن، أو يفترض أنه يستعد لتسليم مسؤولية الحكم للجيل الثاني أو الثالث داخل الأسرة الحاكمة. ولأن الأمر ليس مجرد عملية انتقال للمسؤولية بقدر ما أنه تغير في الثقافة والآلية وتركيبة النظام نفسه، فمن الطبيعي أن تمر عملية الانتقال من عنق الأزمة. من هذه الزاوية يمكن القول إن ما يحصل في الكويت قابل لأن يحدث في الدول الخليجية الأخرى، رغم أن بعض هذه الدول، مثل الإمارات وقطر، انتقل الحكم فيها إلى الجيل الثاني. هناك فجوة تتنامى بين نظام سياسي تقليدي يعطي الانطباع بأنه عصي على التغير والتكيف مع مستجدات العصر، ومجتمع عصفت به تغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية كبيرة، خاصة منذ أواخر النصف الثاني من القرن الماضي. الأنظمة الخليجية قديمة تعود نشأتها إلى القرن الثامن عشر الميلادي. وهي بذلك أنظمة محلية منسجمة مع مجتمعاتها، ولم تفرض من الخارج، الأمر الذي وفر لها قاعدة واسعة من الشرعية. إلى جانب تمتعها بثروة نفطية دفعت عملية التغير الاجتماعي والاقتصادي فيها خطوات واسعة، لكنها في الوقت نفسه ساعدت في تخلف التغيرات السياسية من ناحية أخرى. من هنا فإن ما يحدث للنظام السياسي في الكويت قد يكون من نوع التغيرات التي تأخرت كثيراً. هذا في حالة الكويت، وهي التي بدأت الإصلاح السياسي عام 1962، فما بالك بأنظمة تأخر فيها هذا الإصلاح أكثر من ذلك بكثير. يقال أحياناً إن بداية الكويت كانت مبكرة جداً، بدليل أن الإصلاح تجمد بعد ذلك لأكثر من أربعة عقود. لكن ما يحدث في الكويت منذ بداية العام الحالي يؤكد عكس ذلك تماماً، وأن تلك البداية هي التي وضعت صمام الأمان، وجعلت النظام السياسي أكثر مرونة وقدرة على احتواء ما قد يواجهه من أزمات. ما يحدث في الكويت الآن ليس أقل من مواجهة سياسية بين مجلس الأمة والأسرة الحاكمة. لكنها ليست مواجهة عداء، يحاول فيها طرف إلغاء الطرف الآخر والانقلاب عليه. على العكس هي مواجهة تكامل في إطار الدستور، وشرعية النظام السياسي، وشرعية الأسرة الحاكمة. بعبارة أخرى، ما يحدث تحت شعار أزمة الدوائر الانتخابية هو محاولة لاستكمال عملية الإصلاح الدستوري التي بدأها الشيخ عبدالله السالم من قبل. لم تبدأ الأزمة الحالية التي انتهت بحل المجلس مع موضوع الدوائر الانتخابية. الحقيقة أن المواجهة حول موضوع الدوائر جاءت نتيجة طبيعية للطريقة التي تم بها تجاوز أزمة الحكم التي انفجرت بعد وفاة الشيخ جابر الأحمد بداية العام الحالي. والبداية الحقيقية لهذه الأزمة كانت في تزامن مرض كل من الأمير وولي العهد آنذاك، الشيخ سعد العبدالله. كان هناك حل دستوري لذلك، وهو تفعيل المادتين الثالثة والثامنة من قانون توارث الإمارة، وكلاهما تشترط توافر القدرة الصحية للأمير وولي العهد. لكن تزامن مرض الأمير وولي العهد، وهو تزامن نادر وغير مسبوق، عقّد إمكانية الحل الدستوري، خاصة أن الدستور لا يشتمل على مادة خاصة بحالة نادرة مثل هذه. إلى جانب أن تفعيل المادتين المذكورتين اعتبر، لعوامل اجتماعية وسياسية، خطوة ثقيلة على التركيبة السياسية وترتيبات الحكم، وسابقة لم يكن النظام السياسي مهيأً لها. كانت هناك مكانة الأمير وولي العهد. وكانت هناك صعوبة تحقيق التوافق المطلوب داخل الأسرة الحاكمة على أرفع وأهم منصبين في الدولة دفعة واحدة. عامل آخر، وثيق الصلة هنا، وهو أن مرض الأمير وولي العهد تزامن أيضاً مع تغير موازين القوة داخل الأسرة الحاكمة لصالح فرع الجابر. هذه وغيرها عوامل سياسية وليست دستورية أربكت فيما يبدو الحسابات السياسية داخل الأسرة، الأمر الذي فرض تجاوز الدستور، والتواضع على ترك حسم موضوع الإمارة لعامل الزمن طالما أن الشيخ جابر لا يزال حياً. وكما هو واضح فإن هذا لم يكن إلا حلاً مؤقتاً حتى تفرض الأزمة نفسها على الجميع. جاءت وفاة الشيخ جابر لتنفجر الأزمة فعلاً وتفرض نفسها على الجميع. مع الحالة الصحية للشيخ سعد، برز هاجس تكرار المأزق نفسه، وما ترتب عليه من شلل سياسي، فيما لو تم اختيار الشيخ سعد أميراً للبلاد خلفاً للشيخ جابر. كان هناك شبه إجماع داخل مجلس الأمة من ناحية، وأغلبية الأسرة الحاكمة، وخاصة فرع الجابر، من ناحية أخرى، على ضرورة تفادي تكرار المأزق. وكان المخرج في هذه الحالة إما أن يأتي من خلال تنازل الشيخ سعد عن حقه في الإمارة التي آلت إليه تلقائياً بعد وفاة الأمير، أو أن يتم اللجوء إلى تفعيل المادة الثالثة تمهيداً لتنحيته من الحكم. وفي ضوء عدم تحقق إجماع الأسرة الحاكمة لم يكن من الممكن تفعيل المادة الثالثة إلا من خلال مجلس الأمة. مما أعطى المجلس، ولأول مرة، وزناً سياسياً مهماً في حسم موضوع الإمارة. كان الموقف بحد ذاته سابقة. لم يحدث من قبل أن حسم موضوع اختيار أمير الدولة خارج إجماع الأسرة. لكن هذه المرة اتضح أن تحقيق هذا الإجماع لم يعد ممكناً كما كان من قبل. في لحظة واحدة تداخلت حساسيات اجتماعية مع متطلبات دستورية، ومصالح وتوازنات داخل الأسرة الحاكمة وخارجها. وفي الأخير تطلب الأمر أن يدخل مجلس الأمة، ولأول مرة طرفاً مباشراً في حسم موضوع الإمارة. والحقيقة أن دور المجلس في اختيار أمير الدولة منصوص عليه في الدستور. لكن التقليد السياسي، ولأكثر من أربعة عقود منذ بداية التجربة الدستورية، جعل من هذا الدور لا يتجاوز التصديق الشكلي على ما تجمع عليه الأسرة الحاكمة. ثم جاءت أزمة الحكم المذكورة لتفتح المجال أمام مجلس الأمة لتولي، ولأول مرة، مسؤولية حقيقية في حسم مسألة من يكون أمير الدولة أمام عدم قدرة الأسرة الحاكمة على الإجماع. في هذا الإطار ليس من المبالغة القول إن إمارة الشيخ صباح الأحمد ولدت داخل مجلس الأمة، وبطريقة لم تعرفها الأسرة الحاكمة من قبل. الجديد في الأمر أن بداية إمارة الشيخ صباح كانت هي بداية بروز القوة السياسية لمجلس الأمة. وها هو الشيخ صباح يواجه أول أزمة لحكمه أمام المجلس نفسه الذي مهد الطريق لإمارته. السؤال حينها كان: هل هذا التطور كان بمثابة حالة استثنائية، فرضتها ظروف استثنائية، وبالتالي قد لا تكون خطوة يمكن البناء عليها، أم أن ما حدث كان بالفعل تحولاً سياسياً له تبعاته، وسابقة فرضت نفسها، وستفرض ما سيأتي بعدها في قادم الأيام؟ المواجهة الحالية حول مسألة الدوائر ترجح أن ما حدث كان تحولاً سياسياً له تبعاته. مجلس الأمة، أو القيادات الإصلاحية داخله، تريد أن تبني على ما تحقق للمجلس، وأن تجعل منه شريكاً سياسياً حقيقياً للأسرة الحاكمة في إدارة شؤون الدولة. لعب المجلس أثناء أزمة الإمارة دور صمام الأمان للدولة، وسهل عملية انتقال الحكم، مما أضاف إلى شرعية ومتانة النظام السياسي. من هنا جاءت فكرة استجواب رئيس الوزراء، وهو من الأسرة الحاكمة. يتهم المجلس الحكومة بالمماطلة في موضوع تقليص الدوائر، وأن هذه المماطلة تؤكد تهمة الفساد والتلاعب بالأصوات ضمن العدد الحالي للدوائر من داخل الحكومة. كأن المجلس يقول إن الحكومة تصر على بقاء العدد الحالي للدوائر (25) كطريقة للحد من تنامي القوة السياسية للمجلس. وهذا ما يجعل من أزمة الدوائر الانتخابية مواجهة بين المجلس والحكومة، وبالتالي بين المجلس والأسرة الحاكمة. لجوء الأمير إلى حل المجلس حلاً دستورياً كان البديل الوحيد والصحيح للخروج من الأزمة. حل المجلس يترك أمر الفصل بين الطرفين للناخب، أو للشعب. ولذلك تمثل انتخابات الشهر القادم المحك لكل من الحكومة والمجلس. المواجهة الحالية، إذن هي مواجهة سياسية داخل النظام، وليس ضد النظام أو خارجه، وعلى أساس من شرعية النظام وشرعية القيادة السياسية له. هي عملية سياسية تدفع بالتغيير السياسي إلى الأمام. مدى نجاح هذه العملية، أو فشلها، يقرر اتجاه ومدى تأثيرها على محيطها الخليجي.