هل صار حب الثناء "موروثاً" مطلوباً على الدوام؟ وهل وقع صفوة المثقفين والمفكرين في شرك هذا "الموروث" المغرق في الفشل والتواري؟ فقد اكتسى بعض من الشخصيات العامة غروراً غريباً يتداوله مع ذاته، ومع انعكاس صورته على الآخرين بدرجة مفرطة ومُضحكة. فالذي يرضى بمنصب عام عليه أن يعتاد النقد ويطالب به، ليس مثالية بالضرورة لكنها فرصة لتنفيذ الأمور الصحيحة وإشهار لعقلية متفتحة، تعتقد أن النجاح مرتبط بتصحيح العيوب. فالبعض يرفض النقد ويفسره تفسيراً شخصياً باعتبار أن الآخر واقع تحت حقد غير مُعلن، أو أنه أعلى من كلمات تطالبه بتوضيح مبهم أو تفسير مسألة مشوشة، بدليل أن الكثيرين من الذين نتداول الأحاديث عنهم كشخصيات عامة، يرفضون الاستجابة لوسائل الإعلام بالردّ على الأسئلة المتراكمة، ويرفضون أن يكونوا ضمن فريق عمل متضامن من كافة الفئات، حتى تتاح لهم فرصة رؤية الصورة عن بعد، صورة أكثر وضوحاً وجلاءً. ولعل برامج مثل برامج البث المباشر اليومية، والتي تعكس هموم الشارع والبسطاء، تفضح مثل هذه الشخصيات التي حسبت أن مجرد وجودها على كرسي المنصب، أنها أعلى من النقد أو الاعتراض، وأنه حري بالجماهير أن تشكر الله على كون هذا المتألق بينهم. ربما هي عقلية قديمة نتوارثها ضمن نسق تعليمي بائد، فالمعلم "إله لا يخطئ"، والوالدان كل ما يقومان به عين الإنصاف، والمسؤول حالة خاصة من العدل والعدالة، وتتراكم بعدها عقليات التجبر والغرور، وفي المقابل هناك عقليات الخنوع والاستسلام. لكن رغم هذا التراكم، وهذا البعد عن منطق الخطأ والصواب، لا يمكن تبرير تعامل البعض من الشخصيات العامة بكل هذا الجهل، فكونه ارتضى أنه شخصية عامة عليه أن يرتضي أيضاً كل ما يمكن أن يوجه إليه من تساؤل واستفهام، واستجواب إذ استدعى الأمر. فكثرة الثناء تعمي البصيرة، وتحيطها بجدار عازل عن رؤية قلب الأحداث، وتمنعها من تلمس سخونة الأمور إلى درجة اشتعالها بحريق مخيف. وحتى النقد يحتاج أن يكون موضوعياً بعيداً عن التجريح والتطاول الشخصي، أي أنه يجب أن يقوم على عقلية البعد عن رؤية الأشياء بغير أبعادها الحقيقية. فساحات القتال تحتدم من حين لآخر إن كان هناك من تعليق على سلوك ما، وكأن السيوف مسلولة لا تنام إلا بإراقة أكبر قدر من الدماء المهدرة سلفاً، وأزعم أن السبب أولاً وأخيراً في تلك الشخصية العامة حين اعتبرت كل شيء ضدها أو أولت السؤال إلى حرب سرية لابد من خوض غمارها. نحن نعول كثيراً على أشخاص تقلدوا مناصب عامة بأن تكون لرؤاهم أبعاد أعمق مما هي عليه، وأكثر قدرة على سبر أغوار الحقائق، حتى وإن كانت مرة أو قاسية، فالنقد لمجرد النقد يذوب سريعاً وسط بحر التفاصيل اليومية، والنقد القائم في مكانه الحق يبقى معلقاً إلى أن يجد من يفك غموضه ويريح عناء مملاً لمسافات أطول.