لقد كنت في طريقي من وسط العاصمة المجرية بودابست إلى المطار في ذلك اليوم, عندما قال لي سائقي جوزيف باكو الذي كان يقلني إلى هناك, إنه بوسعي إخطار أصدقائي الراغبين في زيارة المجر بالاتصال به عبر موقعه الإلكتروني الخاص, حيث يمكنه إطلاعهم إلكترونياً على جميع السيارات المتوفرة لديه وأسعار أجرتها, كي يختاروا منها ما يشاءون قبل وصولهم إلى المجر. فما كان مني إلا أن وجهت إليه السؤال: كم يعادل حجم العمل الذي تقوم به عبر شبكة الإنترنت من إجمالي ساعات يومك المهني؟ فكانت إجابته: ما بين 20-25 في المئة تقريباً. وهكذا تحول ذلك المهندس الشيوعي السابق إلى مالك خاص لسيارات الليموزين. وكان من عادة وزير الخارجية الأميركية الأسبق جيمس بيكر الثالث, ترديد القول: "إنك تدرك أنك خارج نطاق العمل, ما أن تستقل سيارة ليموزين صفراء, ويتحدث سائقك اللغة الفارسية". وعلى ذات المنوال أنسج القول هنا: إنك تدرك أن الاقتصاد العالمي قادر على إنشاء شتى أنواع الوظائف والاستثمارات, ما أن يكون لسائقك المجري موقع إلكتروني خاص على شبكة الإنترنت ينطق باللغات الإنجليزية والمجرية والألمانية. وما شركة جوزيف الإلكترونية هذه الخاصة بسيارات الليموزين, سوى مثال واحد لآلاف الأمثلة والاستثمارات الصغيرة التي تسهم في اتساع رقعة الاقتصاد العالمي على نحو تستحيل رؤيته بالعين المجردة. ومن تلك الأمثلة, كنت قد أجريت حواراً قبل مدة ليست بالبعيدة, مع السيد "راميلانجا راجو", رئيس شركة "ساتيام" الهندية لخدمات الكمبيوتر. وتعد هذه الشركة من أكبر الشركات الهندية التي تقوم بالاستثمارات والأعمال المهاجرة من أميركا. أخبرني "راجو" أن شركته بدأت للتو نقل بعض استثماراتها الأميركية المهاجرة إلى القرى الهندية. وبذلك تكون هجرة الأعمال مضاعفة, لكونها غادرت أميركا إلى الهند أولاً, ثم تعرضت لهجرة داخلية ثانية من المدن إلى القرى الهندية الصغيرة! ومما قاله "راجو" تأكيداً لهذا المعنى: لقد تساءلت قائلاً لنفسي "إن كانت المدن الهندية تهجِّر أعمالها واستثماراتها, بهدف تقديم الدعم لمدن أخرى في الدول النامية, فلماذا لا تفعل القرى الهندية العكس تماماً، أي أن تهجّر هي الأعمال لدعم المدن الهندية, خاصة وأن هناك من الأمور ما يمكن القيام به من أي مكان في العالم, إذا ما اتخذنا من استكمال سجلات أو ملف موظف ما مثالاً؟ هذا وقد بدأت شركة "ساتيام" عملياً بقريتين فحسب, تطبيقاً لهذه الفكرة في العام الماضي, إلا أنها تتطلع إلى رفع ذلك العدد إلى 150 قرية. ومما يساعد على ذلك, أن سعة الموجة الإلكترونية تسمح بالوصول إلى كافة القرى الهندية الكبيرة تقريباً, فضلاً عن حماس أهالي القرى أنفسهم للفكرة. ومما لاشك فيه أن هذه ستكون طريقة أخرى لضخ دماء اقتصادية جديدة في شرايين حياة القرية الهندية الهامدة. وبعد ذلك الحوار بمدة قصيرة, كنت قد التقيت وحاورت كلاً من كاتي "جاكوبز ستانتون"، وهو مدير إنتاج أول بموقع "جوجل" الإلكتروني و"كريشنا باهارات", مؤسس قسم "جوجل" الهندي. وحدثني كلاهما أن "جوجل" قد أطلق للتو خدمة مالية جديدة. والمثير للاهتمام في هذا الخبر, أن فريقاً هندياً هو الذي يتولى إدارتها بالكامل, بمساعدة مهندسين عديدين من مختلف أنحاء العالم يدعمون ذلك الفريق. والذي يستنتج من هذا أن إدارة الخدمة المالية الجديدة لـ"جوجل" تتم من الهند وليس من رئاسة الموقع بوادي السليكون في الولايات المتحدة. إلى ذلك قال زميله "باهارات": "لقد دخلنا عملياً مرحلة جيل المكتب الافتراضي", مما يعني أن تطوير المنتج إنما يتم على امتداد الفضاء الالكتروني العالمي كله اليوم. وبهذا نكون قد وصلنا إلى قصتنا الأخيرة من هذه السلسلة. ففي مدينة نيوارك بولاية نيوجيرسي, حيث التقيت بآندي آستور الرئيس التنفيذي لمجموعة "إنتربرايز دي بي", التي تقدم خدمات إلكترونية خاصة في مجال مصادر قواعد البيانات المفتوحة، علمت من آندي أن شركته تتألف من 60 مهندساً باكستانياً يقيمون في إسلام أباد, ويتفاعلون مع المكتب الرئيسي للشركة بولاية نيوجيرسي, عبر تقنية مؤتمرات الفيديو القائمة على شبكة الإنترنت. وبذلك يلتقي موظفو ومهندسو الشركة وجهاً لوجه كل يوم, على رغم بعد المسافة الفاصلة بينهم في أميركا وباكستان! ختاماً فإن ما تقوله لي جميع هذه القصص والحكايات هو أن عالمنا يشهد أنماطاً شتى للتكاتف الاستثماري, مما لم يكن ممكناً له أن يخطر على البال أو الخيال قبل عقد واحد مضى. ذلك أن الكثير من الأدوات والأفكار قد توفرت اليوم, إلى جانب وجود الكثيرين القادرين على دمج الأفكار هذه والأدوات مع بعضها بعضاً لاكتشاف أشياء جديدة. ثم هناك وفرة من وسائل الاتصال الجيدة القادرة على بث الأفكار ونشرها على امتداد العالم كله. وفيما لو ازداد عدد الدول القادرة على توفير ما يكفي من ضروريات الاتصال, مثل الموجة الواسعة وتكنولوجيا الاتصال عن بعد, بحيث تتمكن شعوبها من التواصل مع الآخرين, وفيما لو تحسن مستوى التعليم, وانتشرت نظم الحكم الخالية من الفساد والقائمة على الاقتصاد الحر وحكم القانون, وفيما لو حصلنا على المزيد من موارد الطاقة النظيفة, فستكون أمامنا كل الأسباب التي تجعلنا أكثر تفاؤلاً بتحقيق نمو اقتصادي أسرع خلال القرن الحالي, وانتشال أعداد أكبر من هوة الفقر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"