إسرائيل وسؤال الهوية ----------- من المعروف أن إسرائيل تنظر بحساسية شديدة للغاية إلى الطريقة التي تُقدم بها في وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها. ولذلك فإن أية وسيلة إعلامية تُجري مقابلة مع إسرائيلي لا يمثل الصورة النمطية التي تريد إسرائيل رسمها لمواطنيها، قد تستثير ردود فعل شرسة. فالإسرائيلي النموذجي من وجهة نظر التيار الثقافي العام في إسرائيل يشبه إلى حد كبير الإسرائيليين المؤيدين لحزب "كاديما" الذي أنشأه شارون وفاز في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.. أي أنه يجب أن يكون شخصاً علمانياً، ولكنه يحترم في الوقت ذاته العادات والتقاليد اليهودية، ولديه استعداد لتقديم "تنازلات مؤلمة" من أجل تحقيق السلام مع الفلسطينيين، على الرغم من أنه يفضل اتخاذ إجراءات صارمة ضد المقاومين منهم، وأن يكون ليبرالياً، ومخلصاً في نفس الوقت لفكرة الدولة اليهودية أحادية العرق أو التي تقوم على النقاء العرقي. ولكن المعضلة التي كانت إسرائيل تواجهها دائماً هي أنه إذا ما اقتصرت الكتب التي تتم كتابتها عنها وعن مواطنيها على تقديم صورة اليهود النموذجيين من وجهة نظرها، فإن ذلك سيؤدي في النهاية إلى انصراف القراء عن تلك الكتب لأنها ستكون مملة، ويمكن التنبؤ بما هو مكتوب فيها. وفي الكتاب الذي نقوم بعرضه في هذه المساحة وعنوانه: "عقول محتلة: رحلة في النفسية الإسرائيلية" يحاول المؤلف" أرثر نيلسن" وهو صحفي يهودي يتخذ من لندن مقراً له، وعمل من قبل محرراً للشؤون الدولية لمجلة "ريد بيبر" البريطانية بمحاولة مقاومة ذلك الاتجاه في الكتابة. ومن أجل ذلك نراه يسافر إلى هوامش المجتمع الإسرائيلي، ويقابل حاخامات وملحدين، وشباباً وعجائز، ويساريين ويمينيين متطرفين، ومستوطنين وفوضويين، ومهاجرين جدداً، ومواطنين قدامى، وجنوداً ومدنيين، فكانت النتيجة هذا الكتاب الذي يختلف كثيراً عن تلك النوعية من الكتب التي كانت تدبَّج عن المجتمع الإسرائيلي، والتي تحفل بالكثير من المعلومات التي ربما يطلع عليها الكثير من القراء -حتى الإسرائيليون منهم- للمرة الأولى. وتبدو نزاهة الكاتب واضحة في أنه لم يحاول التأثير على آراء من قابلهم من خلال نوعية الأسئلة التي يوجهها إليهم، والتي تقودهم إلى تقديم الإجابات التي تؤيد وجهة نظره هو كي يتمكن من صبغ الكتاب باللون الذي يريده في النهاية. لم يفعل المؤلف ذلك، بل ترك للأشخاص الذين قابلهم حرية الحديث والتعبير عما يجول في خواطرهم، وهو ما ساهم في إضفاء صبغة موضوعية على كتابه، ودلَّ في نفس الوقت على ما يتمتع به هو نفسه من موضوعية ونزاهة. وهذه الموضوعية والنزاهة وما يتمتع به من سمعة طيبة سبقته إلى إسرائيل هي التي ساعدته على إجراء مقابلات مع أشخاص لا يوافقون في الظروف العادية على إجراء لقاءات صحفية. من هؤلاء على سبيل المثال "لاريسا تريمبوبلر" زوجة "إيجال عامير" الشاب الإسرائيلي الذي قام باغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين عام 1995، احتجاجاً على إبرامه لاتفاقية سلام مع الفلسطينيين.. ومنهم أيضا "هنان بورات" زعيم المستوطنين السابق وعضو لجنة الشؤون الخارجية والأمن بـ"الكنيست"، الذي نجح المؤلف في الحصول منه على اعتراف بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية (ربما يبدو ذلك أمراً معروفاً للعموم، ولكن إسرائيل تصر مع ذلك وحتى لحظتنا هذه على التمسك بسياستها القائمة على الغموض بشأن هذا الأمر). ولكن أكثر تلك المقابلات متعة هي تلك التي لم تكن متوقعة. ومنها المقابلة التي أجراها مع أحد مشجعي فريق إسرائيلي لكرة القدم قال له خلالها إنه يقوم بإبلاغ المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان بأسماء زملائه المشجعين المتعصبين والذين يتفوهون بعبارات عنصرية ضد لاعبي الفرق الأخرى أثناء مباريات فريقهم. وهناك أيضاً تلك المقابلة التي أجراها مع "ألونا أبت" مقدمة البرامج التلفزيونية الإسرائيلية المعروفة التي كانت تقوم بالإعداد لتقديم نسخة إسرائيلية- فلسطينية من مسلسل "شارع السمسم" التلفزيوني الأميركي المخصص لتعليم الأطفال في مرحلة ما قبل الالتحاق بالدراسة الابتدائية، والتي عبرت له خلالها عن المشكلات التي تواجهها في إعداد هذا البرنامج بسبب حساسيات العلاقة والاختلافات بين الثقافتين الإسرائيلية والفلسطينية. على أن ذلك يجب ألا يدفعنا للاعتقاد بأن الكتاب عبارة عن تجميع للمقابلات الشخصية، لأن القراءة الدقيقة للكتاب ستقودنا إلى إدراك أنه كتاب سياسي بامتياز، وأن المؤلف لم يلجأ إلى أسلوب المقابلات إلا لكسر حدة الملل الذي يمكن أن يقابله القارئ نتيجة لجفاف الموضوع الذي دبجت عنه المئات من الكتب قبل ذلك. علاوة على ذلك فإن اختياره للشخصيات التي أجرى معها اللقاءات، وحرصه على أن تكون ممثلة لمختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي في إسرائيل، قد أضفى مصداقية على انتقاداته الحادة للصهيونية، والتي حاول من خلال تلك المقابلات أن يبين لقراء الكتاب أنها لا تقتصر عليه وحده وإنما يشاركه فيها أيضاً الكثيرون من الإسرائيليين أنفسهم. ومع ذلك فإن المؤلف لم يكن موفقاً في القرار الذي اتخذه بعدم إجراء مقابلات مع عرب إسرائيل، أو المواطنين الإسرائيليين من أصل عربي، مستنداً في ذلك على ما يراه من أنهم لا يساهمون في تشكيل شخصية الدولة اليهودية، وبالتالي فإن آراءهم لن تكون مفيدة في تحديد معالم هذه الشخصية أو نفسيتها. وعلى الرغم من أن هذا الرأي يتفق مع نظرة اليسار الأوروبي إلى المسألة الإسرائيلية- الفلسطينية، إلا أنه يعد إجراء إقصائياً من جانب المؤلف لأنه يتجاهل أهمية وتعقيد مسألة المواطنة بالنسبة لعرب إسرائيل، ولا يخفف من وطأته قيامه بعد ذلك بإهداء الكتاب إليهم. سعيد كامل الكتاب: عقول محتلة: رحلة في النفسية الإسرائيلية المؤلف: أرثر نيلسن الناشر: بلوتو برس تاريخ النشر: 2006