قام برلمان الاتحاد الأوروبي أول أمس الثلاثاء، بتمرير قوانين جديدة، تعنى بمكافحة المزاعم الصحية المضلِّلة، الموجودة حالياً على العديد من أصناف وأنواع العبوات الغذائية المصنعة. وحسب القوانين الجديدة، يجب أن يخضع أي ادعاء بتحقيق فائدة صحية -مثل الوقاية من أمراض القلب أو مكافحة السرطان- للفحص والتدقيق العلمي، قبل أن يوضع على عبوة هذا الغذاء أو ذاك؟ وتغطي هذه القوانين الجديدة، ليس فقط الادعاءات الصحية، بل أيضاً المزاعم الغذائية. فكتابة عبارة (قليل الدهون) مثلاً، يجب أن تتوافق مع معايير موحدة، معترف بها مسبقاً من قبل الاتحاد الأوروبي. فالمنتج الذي يحتوي على تسعة جرامات من الدهون، هو أقل في الدهون من منتج آخر يحتوي على عشرة جرامات، ولكنه لا يعتبر قليل الدهون مقارنة بمنتج ثالث يحتوي على جرام واحد فقط من الدهون. وإذا ما كان المنتج بالفعل قليلاً في مادة ما –الملح مثلاً- فلابد وفي نفس الوقت أن يذكر بشكل واضح ما إذا ما كان يحتوي على نسب مرتفعة من مواد أخرى، مثل الدهون أو السكريات. هذه المجموعة الكاملة من القوانين الجديدة، والتي ستطبق تدريجياً على مدار فترة ثلاثة أعوام، ترمي إلى تنظيم الادعاءات التسويقية لصناعة الغذاء، ووقف استغلال المستهلكين الساعين للحصول على غذاء أفضل وذي فوائد صحية، وهي المشكلة التي تفاقمت مع انتشار مفهوم الأغذية الوظيفية أو الصحية (functional food)، وهي الأغذية التي يفترض أن تؤدي وظيفة أو فائدة صحية خاصة. فبخلاف القيمة الغذائية للأطعمة، والمتمثلة في مد الجسم باحتياجاته من الطاقة والعناصر الغذائية الأساسية، يمكن لبعض أنواع الغذاء أن تحقق فوائد صحية أخرى، مثل الوقاية من بعض الأمراض. ورغم أنه لا يوجد اتفاق عام على تعريف محدد للأغذية الوظيفية والصحية، وفي الوقت نفسه الذي تحيط به الشكوك العلمية حول قدرة هذا الغذاء أو ذاك على الوقاية من هذا المرض أو ذاك، فإن صناعة الغذاء سارعت للقفز على هذا الارتباك العلمي، ملصقة على عبوات منتجاتها، وبالخط العريض، ادعاءات كثيرة وفوائد جمة، لمن يشترى ويتناول أو يشرب منتجها. والأدهى من ذلك، أن شركات صناعة الغذاء لجأت لتعبيرات مثل (خالٍ من الكوليستيرول)، دون أن تذكر أنه يحتوي على كميات هائلة من السكريات، أو (قليل الملح)، ودون أن تذكر أنه مرتفع في الدهون. ولم تنتظر تلك الشركات ثبوت أن كون الغذاء الذي تصنعه مفيد طبيعياً، فراحت تضيف إليه الفيتامينات والمعادن، دون مراعاة أن الشخص الذي يتناول غذاء صحياً سليماً، لا يحتاج إلى تدعيم غذائه بفيتامين (سي) أو إضافة الكالسيوم إليه، ودون الأخذ في الاعتبار الجرعة اليومية المسموح بها من تلك الفيتامينات والمعادن. ومما زاد الطين بلة، اعتماد صناعة الغذاء على دراسة علمية هنا أو هناك، يعتقد أو ربما مجرد يشك القائمون عليها بأن هذا الغذاء يحقق فائدة (نسبية) في مكافحة مرض ما، كي يلصقوا "ستيكر" ضخم على منتجاتهم بتلك الشكوك، وكأنها حقيقة علمية موثقة ومؤكدة. وفي مواجهة آلة التسويق الغذائي، يظل المستهلك بلا حول ولا قوة، اللهم إلا إذا كان متخصصاً في العلوم الغذائية، أو حاصلاً على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية. وحتى المؤسسات العلمية والجهات الحكومية، نجحت صناعة الغذاء في استئناسها. فالمعروف أن صناعة الغذاء العالمية مارد ضخم، يبلغ حجمه مئات المليارات من الدولارت، وينفق مبالغ هائلة سنوياً على التسويق وشراء النفوذ. فعلى سبيل المثال، نجحت شركات الأغذية خلال الأعوام القليلة الماضية، في ضم مؤسسات علمية شهيرة إلى صفوفها، مثل جمعية القلب أو جمعية مكافحة السرطان وغيرها. فمقابل تبرعات سخية، تبلغ الملايين من الدولارات، وافقت تلك الجمعيات على إرفاق أسمائها بما تدعيه الشركة من فوائد صحية، سواء كان الوقاية من أمراض القلب أو مكافحة السرطان. أما بالنسبة للجهات الحكومية، فيكفي أن نعلم أن صناعة الغذاء العالمية، وخصوصاً الأوروبية والأميركية منها تتمتع بـ"لوبي" قوي، ربما يعادل أو يزيد في تأثيره على "لوبي" صناعة السلاح، كي ندرك مدى نفوذ هذه الصناعة في عالم السياسة والاقتصاد. فعلى سبيل المثال، قررت هيئة الأغذية والعقاقير الأميركية في صيف عام 2003، تخفيف الإجراءات والقيود المفروضة على شركات تصنيع الغذاء، فيما يتعلق بما هو مسموح لها بوضعه من مزاعم صحية على معلباتها، ودون وجود أسس علمية قوية تدعم هذه الادعاءات، وهو ما شكل تراجعاً عن أحد قوانين الهيئة نفسها التي مررها الكونجرس عام 1990، والمعروف بقانون التثقيف والملصقات الغذائية (Nutrition Labeling and Education Act). ودافع حينها مسؤولو الهيئة عن قرارهم هذا، بزعم رغبتهم في توفير معلومات أفضل وأكثر للمستهلكين عن المنتجات الغذائية، مما سيساعدهم على تجنب مخاطر بعض الأمراض المزمنة. وليس من الواضح كيف يمكن للاعتماد على أسس علمية مهزوزة، وحقائق غير مؤكدة، أن يمنح المستهلك قدراً أكبر وأفضل من المعلومات. ولكن كما هو الحال مع ملصقات صناعة الغذاء، لا يفترض على المرء أن يصدق كل ما يقال أو يكتب. ولذا ربما كان من الجدير أن يتم تغيير العبارة الشائعة المستخدمة للتشكيك فيما ينشر في بعض وسائل الإعلام بوصفه بأنها "كلام جرايد"، ليصبح الأفضل وصف ما تشك في مصداقيته بأنه "كلام معلبات"، لابد وأن تبلعه مع القليل من الملح كما يقول المثل الإنجليزي. د. أكمل عبد الحكيم