إحدى الإشكاليات المتعارف عليها في الصحافة العربية عموماً أنها تقع في أحيان كثيرة في ورطة المزج بين الخبر والرأي، وهذه ظاهرة واضحة يمكن البرهنة عليها في مواقف كثيرة، ولكن في الآونة الأخيرة تكررت في بعض صحفنا المحلية "التسريبات الإخبارية" التي تتحدث عن سياسات أو إجراءات أو قرارات جديدة في هذه الوزارة أو تلك ثم ما تلبث الحقائق أن تتكشف وتنتفي صحة هذه التسريبات، التي تثير في كثير من الأحيان نقاشات مجتمعية وتقسم الجمهور إلى "فسطاطين" بين مؤيد ومعارض رغم أن الجدل جميعه يدور حول قضية وهمية لا أساس لها.
التسريبات مسألة تقليدية في الممارسات والأعراف الصحفية، بل أحياناً ما تعبر عن حرفية مهنية ومهارة صحفية في اختراق جدر الصمت في المؤسسات التي تمارس تعتيماً إعلامياً منهجياً حول سياساتها، وهي تعكس أيضاً مقدرة الصحفي على بناء شبكة علاقات قوية تتيح له التعرف إلى ما يدور وراء الكواليس بما يعود بالنهاية بالفائدة على صحيفته. وهكذا فإن التسريبات تعد أحد فنون الممارسة المهنية المحمية بقوانين الصحافة الحرة التي تنص على حق الصحفي في عدم البوح بمصدره وحماية أسراره المهنية، ولكن عندما يساء استخدام التسريبات بحيث تبدو أقرب إلى "الشائعات الإعلامية"، فإننا نكون بصدد مسألة بالغة الخطورة بالنسبة إلى الوسيلة الإعلامية، لأنها تفقدها صدقيتها واحترامها في عيون جمهورها، ولذا فإن صدقية الخبر تستمد في بعض الأحيان من صدقية الصحيفة حتى لو كان مصدره مجهولاً أو رفض الإفصاح عن هويته لاعتبارات ما، بينما يبدو الأمر معكوساً في أحيان أخرى، حيث يتشكّك القرّاء في صدقية خبر ما حتى لو نسب إلى مصدر معروف، ومن هنا كانت الصدقية عاملاً بالغ الحيوية بالنسبة إلى الوسيلة الإعلامية.
وفي الأيام الأخيرة تداولت بعض الصحف المحلية أخباراً ذات صلة وثيقة بقطاعات وشرائح عريضة من الجمهور والقرّاء، واستهلت هذه الأخبار بمقدمات من نوع "علم" و"أشار مصدر مطلع" و"كشف مسؤول رفض ذكر اسمه"، وغير ذلك، ثم عادت الصحف لتنفي ما نشر على لسان مصادر أيضاً في الجهات ذاتها!!
الصحافة هنا قد تقع ضحية تردد بعض الجهات في الإعلان عن إجراءات جديدة، وقد تقع ضحية عدم تيقن مصادرها من التسريبات التي تبوح بها، أو عدم إلمامهم بالتفاصيل الكاملة للموضوعات وتطوراتها، وربما قد تقع أيضاً ضحية "مكائد" و"فخاخ" تدبّر لهذا المسؤول أو ذاك، أو تستخدم كوسيلة لـ"حرق" إجراء ما بالإعلان المنقوص عنه بما يثير حوله اللغط وتستخدم ردود الأفعال السلبية كورقة ضغط لتجميد الإجراء أو وأده نهائياً أو مرحلياً!! الحيل والألاعيب كثيرة، والصحيفة "الضحية" قد تكون حصان طروادة الباحث عن سبق يغذي تلهفه لكل ما هو جديد ومميز لاسيّما من الأخبار المحلية.
جوهر المشكلة لا يكمن بالضرورة في الصحيفة، بل بالأساس في سياسات التعتيم ونظرات الشك وسوء الإدراك القائم بين بعض المسؤولين والصحافة، مع أن حرية الصحافة هي الضامن الأساسي للصحة المجتمعية ومواجهة الأخطاء الفردية وتسليط الضوء على السلبيات ضمن موقف ساعٍ إلى مصلحة عامة، وهذا لا يعني بالضرورة أن الصحافة منزهة عن الأخطاء أو أن موضوعية النقد مكفولة تماماً ولكن هذا ما يحدث في غالب الأحوال، أو هكذا يفترض.