منذ عشرين عاماً انتشرت سحابة ضخمة من الإشعاع في المنطقة الواقعة إلى الغرب من مفاعل تشرنوبيل النووي بأوكرانيا، مما أدى إلى مصرع العشرات من رجال الطوارئ في موقع الحدث على الفور، كما أدى إلى زيادة كبيرة في نسبة المصابين بسرطان الغدد الدرقية من أطفال أوكرانيا وروسيا البيضاء وروسيا الاتحادية، كما أدى -وسيؤدي- إلى مصرع الآلاف من سكان المناطق الذين تعرضوا إلى مستويات منخفضة من الإشعاع.
قبل هذا الحادث، كانت السلطات المسؤولة قد دأبت على تطمين الجمهور من خلال القول إن المفاعلات النووية لا يمكن أن تنفجر بالطريقة التي تنفجر بها القنابل العادية، وأن الربط بين المفاعلات النووية والأسلحة النووية ربط خاطئ من حيث الجوهر، وهو ما تبين خطؤه. وأدى وضع هذه المزاعم موضع المساءلة، والأداء المخيب للآمال لمحطات القوى النووية خلال السبعينيات والثمانينيات، إلى تخوف الكثير من الدول من الشروع في إنشاء مفاعلات نووية جديدة وهو تخوف يمكن القول إنه استمر قائماً حتى نهاية القرن الماضي على الأقل.
وهناك نقطة مضت دون ملاحظة، أو على الأقل دون أن يتم بحثها وتقييمها بشكل كافٍ، وهي أن سوء حالة مفاعل تشرنوبيل قد أظهر -عند وضعه موضع المقارنة مع المفاعلات الموجودة في الولايات المتحدة ومعظم الدول الصناعية المتقدمة الأخرى- الخصائص الإيجابية التي تتمتع بها تلك المفاعلات.
فمفاعل تشرنوبيل ينتمي إلى تلك الفئة من المفاعلات المعرضة لحدوث سلسلة من ردود الأفعال، التي تحدث على نحو سريع وغير قابل للسيطرة. فعندما يتم تشغيل هذه الفئة من المفاعلات من خلال استخدام مستوى منخفض من الطاقة، فإنه إذا ما تصادف ونضب الماء الموجود فيها، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة مفاجئة وسريعة للغاية في نشاطها الإشعاعي، الذي لو تجاوز مرحلة معينة فإن ذلك يؤدي حتماً إلى حدوث انفجار. ومما يزيد من خطورة تلك الفئة من المفاعلات أن زيادة الضغط بنسبة ضئيلة فوق المعدل المعتاد داخل قنوات الماء الموجودة في ماكيناتها، يمكن أن تؤدي إلى انفجار غطائها، ومن ثم كسر قضبان التحكم الحيوية، وقنوات الوقود الموجودة بها والممتدة إلى جوف المفاعل.
والذي حدث في ليلة يوم الخامس والعشرين من أبريل 1986 هو أن مجموعة من مشغلي المفاعل غير المدربين جيداً، قاموا بإجراء تجربة دون إعداد جيد، حيث قاموا بوضع الماكينة في الحالة التي يكون من المرجح للغاية عندها زيادة درجة التفاعلية Reactivity إلى حد كبير. وخلال جزء من الثانية انتقل المفاعل من مستوى التشغيل المحدود الذي كان عليه، إلى مستويات تشغيل تفوق الحد الأقصى لقدرته بعدة مرات مما أدى إلى وقوع الحادث.
ومن المعروف أن مثل هذا النوع من الحوادث لا يمكن أن يقع في المفاعلات التي تعمل بالماء الخفيف، مثل تلك التي تستخدم في الولايات المتحدة وفي معظم الدول الغربية. ففي تلك المفاعلات لا يؤدي الماء وظيفة "المُبرِّد" فقط، وإنما يؤدي أيضا وظيفة "المهدئ" النووي، الذي لا يمكن لأي سلسلة من ردود الأفعال النووية المستديمة ذاتياً، أن تحدث في حالة غيابه. وهذه الخاصية تعتبر من خواص الأمان السلبية المهمة للغاية. فعندما ينخفض مستوى المُبرد، يبقى خطر احتمال ذوبان جوف المفاعل قائماً بسبب احتفاظ الوقود بالحرارة، ولكن الذي يحدث في مثل هذه الحالة هو أن يقوم المفاعل بإغلاق نفسه أتوماتيكياً على الفور.
ومع ذلك نجد أن منتقدي وخصوم الطاقة النووية يشككون في كفاءة وقدرة شركات إدارة المرافق على إدارة المفاعلات النووية المعقدة. وفي الحقيقة أن هذا التشكك في محله. ففي حقبة الثمانينيات من القرن الماضي انضمت بعض الجماعات المعارضة للطاقة النووية، إلى مجموعة من أنصار حرية السوق في الدعوة لتخفيف القيود التنظيمية المفروضة على منشآت إنتاج الطاقة الكهربائية. وكان منطقهم هو أنه إذا ما تم تأمين عوائد مجزية لاستثمارات شركات المرافق -في منشآت الطاقة الكهربائية- فإن تلك الشركات ستتوقف من تلقاء ذاتها عن الاستثمار في منشآت الطاقة النووية باهظة التكاليف، وصعبة الإدارة في آن.
غير أن هناك بعض الشركات العاملة في إدارة المرافق قامت بالاستجابة لتخفيف القيود عن طريق إعادة تنظيم نفسها، مما أدى إلى ظهور شركات متخصصة في إدارة منشآت الطاقة النووية. وعلى الرغم من أن سجل هذه الشركات ليس نظيفا تماما (شركة "إيكسلون" مثلا متهمة بأنها تسببت عن طريق الإهمال في تسرب مادة التريتيوم Tritium، وهي من النظائر المشعة من ثلاثة مفاعلات تقع في ولاية ألينوي الأميركية)، إلا أنه يمكن القول بشكل عام إن أداء منشآت الطاقة النووية قد تحسن بدرجة كبيرة عما كان عليه في الماضي. ففي عام 1986 كانت المنشأة النووية الأميركية تنتج الكهرباء خلال 57 في المئة من إجمالي وقت تشغيلها. أما في عام 2004، فإن هذه المنشآت تعمل في إنتاج الطاقة النووية خلال 90 في المئة من ذلك الوقت.
والحقيقة أن هذا التحسن قد جاء في وقته: فعلى الرغم من أن الإحماء الحراري العالمي قد غدا ملحوظاً إلى