من عدة نواحٍ كان الأمر مضحكاً؛ حيث كان قادة الاتحاد الأوروبي، يعقدون اجتماعاً استغرق يومين (23-24 مارس الماضي) ببروكسل لمناقشة مستقبل الطاقة في أوروبا –وهذا كما هو واضح موضوع حرج خصوصاً لو أخذنا في الاعتبار الأحداث الأخيرة في روسيا والسوق الدولية للنفط والغاز بشكل عام. ولكن ما حدث هو أنه عندما بدأ "أرنست- أنطوان سيليير" مدير "منظمة أرباب الأعمال" المنبثقة عن الاتحاد الأوروبي، في مخاطبة هذا التجمع المتميز من الحاضرين، فإنه فضل أن يتحدث بالإنجليزية. وهنا حدث ما لم يكن متوقعاً حيث قام الرئيس الفرنسي جاك شيراك بتقريع المسيو "سيليير" مطالباً إياه بأن يخبره كيف لمسؤول فرنسي أن يتحدث أمام اجتماع كهذا بلغة إنجليزية.
وعلى ما يبدو أن رد المسؤول الفرنسي والذي قال فيه إن اللغة الإنجليزية هي اللغة المعتمدة في مجتمع الأعمال العالمي، لم يلق قبولاً من شيراك، فخرج من القاعة غاضباً. هل ما فعله شيراك نوع من الغطرسة الفرنسية المعروفة، أم أنه إنذار آخر توجهه باريس مفاده أن المشروعات المبالغة في طموحها والعابرة للدول، والتي تتعامل مع الموضوعات الحساسة مثل التجارة والطاقة والزراعة، يجب أن تخفف من غلوائها، وأن تراعي الاختلافات بين الأمم والثقافات؟
والحقيقة أن كلا التفسيرين صحيح، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن "شيراك" يعلم جيداً أن اللغة المستخدمة في الشركات الفرنسية الكبيرة التي تتعامل مع الخارج هي الإنجليزية وليس الفرنسية. كان واضحاً لمن شهد هذه الواقعة أن شيراك حاول تقمص شخصية ودور الجنرال "شارل ديجول" وأنه قصد أن يوجه إشارة غاضبة إلى غريمه توني بلير.
ولكن القيام بزيارة سريعة إلى الشوارع التي احتدت فيها التظاهرات بالقرب من "السوربون"، أو القيام بزيارة أطول للريف الفرنسي، قد يكشف لنا أن الأمر أكبر من ذلك بكثير. فالأمر لا يتعلق فقط باقتراحات رئيس الوزراء "دومينيك دو فيلبان" الخاصة بإجراء تعديلات على قانون العمل الفرنسي، التي كانت قد أثارت غضباً عارماً من الشارع، وسببت إحراجاً لمعظم وزراء الحكومة الذين يدركون أنهم سواء اتخذوا موقفاً مرناً أو متصلباً من هذه الاقتراحات، فالمؤكد أنهم سيواجهون انتحاراً سياسياً في الانتخابات العامة القادمة. ولا يتعلق الأمر بذلك فقط وإنما يتعلق أيضاً بحقيقة أن المجتمع الفرنسي يواجه على ما يبدو صعوبة كبيرة في التعامل مع الضغوط المستمرة لـ"العولمة" وأختها التوأم "الحداثة". وفرنسا ليست وحدها في ذلك الأمر بالطبع. فهناك دول تختلف ظروف كل منها كلياً عن الأخرى تمام الاختلاف مثل البرازيل وبولندا وإيطاليا على سبيل المثال، التي تعاني من صعوبات كبيرة في التأقلم مع متطلبات العولمة، وتكافح من أجل الاحتفاظ بقدرتها على المنافسة في الأسواق المعولمة.
ولكن دواعي القلق الفرنسي تكتسي أهمية خاصة... لماذا؟ لأن فرنسا -ودعونا نعترف بذلك- لاعب مهم جداً على المسرح الأوروبي والعالمي على حد سواء. فالسياسة الزراعية العامة للاتحاد الأوروبي التي يزداد الجدل حولها باطراد، بسبب تأثيرها السلبي على فرص دول العالم الثالث في تصدير محاصيلها، هي صناعة فرنسية في الأساس. وعلى الرغم من ذلك نجد أن فرص إجراء إصلاحات جوهرية فيما يتعلق بالتمويل الزراعي في فرنسا تكاد تنعدم، وخصوصاً في القرى والمدن الصغيرة في الريف التي يعتمد المزارعون من كبار السن فيها على الدعم السعري الذي تقدمه الحكومة، ويعارضون أية تغييرات على أساليب الزراعة، ويراقبون بفزع الخروج الجماعي للشباب من القرى إلى باريس بل وإلى لندن أيضاً.
ولعوامل مختلفة منها الخوف من أن تؤدي تلك "الإصلاحات" إلى المزيد من فقدان الوظائف (وبالتالي إلى القلاقل كما هو حاصل حالياً)، ومنها الغطرسة الفرنسية المعتادة، فإن الحكومة الفرنسية لم تجد أمامها سوى مواصلة أداء دورها كمؤيد قوي لـ"الأبطال الوطنيين" وأحيانا لـ"الأبطال الأوروبيين" في الصناعات الاستراتيجية الرئيسية.
فاتحاد الطلبة الفرنسي على سبيل المثال، يتلقى مساعدات من الدولة باعتبار أن ذلك يمثل حقاً طبيعياً له، ويقوم أعضاؤه بالتظاهر في الشوارع عند إحساسهم بأي توجه من جانب الدولة لإجراء تغييرات على هذه المساعدات. وليس اتحاد الطلاب وحده هو الذي يحظى بهذه المساعدات من جانب الدولة فهناك أيضاً الاتحادات المهنية الخاصة الممثلة للصناعات الكبيرة.
بمعنى آخر يمكن القول إن كل تلك الظواهر تهدف إلى مقاومة محاولات الاستحواذ الأميركي والآسيوي على الشركات الفرنسية للحيلولة دون عولمة الاقتصاد والمجتمع الفرنسي. وفكرة أن العالم قد أصبح مسطحاً، فكرة مفزعة لمعظم سكان فرنسا المهمومين بمسائل مثل الخصوصية والتفرد. فمن في فرنسا يريد أن تصبح مقاطعة مثل "دوردوني "أو "الألزاس" مسطحة مثل ولاية "كانساس" الأميركية مثلا؟
إن رد فعل شيراك العصبي في بروكسل يومذاك، يعكس بعضاً من دواعي القلق راسخة الجذور في فرنسا، ومنها أن فرنسا قد فقدت موقعها المهيمن في الاتحاد الأوروبي، وأن