في محاولة لتأجيج الجدل الدولي الدائر حالياً حول بعض الممارسات الأميركية في الحرب على الإرهاب وبعث النقاش حولها مجدداً من تحت الرماد، كشف تحقيق أجراه البرلمان الأوروبي مؤخراً عن أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قامت بما لا يقل عن ألف رحلة جوية إلى أوروبا منذ هجمات 11 سبتمبر. وقد أعلن عن تفاصيل هذه العمليات في تقرير أعدته لجنة مختصة أنيطت بها مهمة التحقيق في الأنشطة التي اتهمت الاستخبارات الأميركية بالضلوع في تنفيذها على الأراضي الأوروبية مثل اختطاف مشتبه بهم من شوارع المدن الأوروبية وتهريبهم إلى بلدان بعيدة، أو حجزهم لدى الولايات المتحدة داخل معسكرات الاعتقال كتلك الموجودة في جوانتانامو بكوبا. واللافت أن نتائج التحقيق الذي وجه أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة وأكد ممارساتها الاستخباراتية لم يثر أي رد فعل حاد من قبل المسؤولين الأوروبيين، خصوصاً وأن صدور التقرير تزامن مع انشغال الحكومات الأوروبية نفسها بالبحث عن أفضل السبل والوسائل للتعامل مع الإرهاب الدولي. ولئن كان الرد الأوروبي الرسمي على الادعاءات بشأن تورط الولايات المتحدة في عمليات اختطاف للمشتبه بهم فوق التراب الأوروبي جاء خافتاً، فذلك يعني حسب العديد من المراقبين أن الحرج الأميركي غير متعلق بالجهات الرسمية بقدر ما هو مرتبط بالرأي العام الأوروبي. والأكثر من ذلك يدل الرد الأوروبي الفاتر ليس فقط على وجود معرفة مسبقة لدى بعض الدول الأوروبية بالرحلات الجوية الأميركية، بل يدل أيضاً على وجود تعاون بين الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة بهذا الشأن.
"كارين دونفاير"، خبيرة العلاقات الأوروبية- الأميركية في واشنطن تعزز هذا الطرح بقولها: "جاءت التحقيقات التي أجراها البرلمان الأوروبي لتعكس مواقف الرأي العام الأوروبي وليس المواقف الرسمية، وبخاصة في ظل شكوك الجمهور الأوروبي إزاء الممارسات الأميركية التي تطال بلدانه". يشار إلى أن البرلمان الأوروبي رغم كونه هيئة منتخبة، وبالتالي هو الأقرب إلى آراء المواطنين الأوروبيين، إلا أنه بات بسبب سلطاته المحدودة أضعف مؤسسة في البناء الأوروبي. ولا ترجح "دونفاير" أن يكون للنتائج التي خرج بها تحقيق البرلمان الأوروبي وقع كبير في الأوساط الرسمية الأوروبية بالنظر إلى ما أثير في السابق عن معرفة الحكومات الأوروبية بالأنشطة التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية في أوروبا. ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أثناء زياراتها إلى الدول الأوروبية ومباحثاتها مع الزعماء الأوروبيين، حيث أكدت دائماً على احترام الولايات المتحدة لـ"سيادة" البلدان الأوروبية. وهو ما يعني في نظر "كارين دونفاير" أن "تلك البلدان كانت على علم مُسبق بما كان يجري على أراضيها". وعلى سبيل المثال صرح الاشتراكي الإيطالي "كلوديو فافا"، وهو المشرف على تحقيق البرلمان الأوروبي، في تعليق علني يوم الأربعاء الماضي قائلاً: "من المستبعد أن تكون عملية الاختطاف التي تعرض لها رجل الدين المصري أبو عمر في فبراير 2003 بميلانو قد تمت دون معرفة السلطات الإيطالية أو الأجهزة الأمنية".
وفي السياق نفسه أكد "لوكا فيراري" الناطق الرسمي باسم السفارة الإيطالية في واشنطن أن الجدل المحتدم في إيطاليا حول الرحلات الجوية الأميركية داخل البلاد قد تراجع عما كان عليه في السابق. وأضاف "فيراري" أن "الرأي العام الإيطالي، والمعارضة قبلا بتوضيحات الحكومة التي نفت بشدة وجود سجون سرية في إيطاليا، أو إجراء رحلات أميركية من داخل البلد". وأشار المسؤول إلى أن تشكيل الحكومة الإيطالية الجديدة عقب إجراء الانتخابات، فضلاً عن الأخبار السيئة المتعلقة بمقتل ثلاثة جنود إيطاليين في العراق، قلصا من اهتمام الرأي العام بنتائج تقرير البرلمان الأوروبي وسحبا منه الزخم الذي كان منتظراً له. بيد أن دبلوماسياً أوروبياً آخر، فضل عدم الكشف عن اسمه، بسبب الطبيعة الحساسة للموضوع قال إنه في الوقت الذي تبدو فيه قضية الأنشطة الاستخباراتية الأميركية في أوروبا وكأنها قد توارت عن الأنظار، إلا أنها مازالت مرشحة للظهور مرة أخرى إذا ما بدأت نتائج اللجان التي شكلتها برلمانات الدول الأوروبية للتحقيق في الموضوع تطفو إلى السطح، ملمحاً إلى جلسة الاستماع التي سيعقدها البرلمان الألماني في الحادي عشر من شهر مايو المقبل لتحديد ما إذا كانت الحكومة الألمانية كانت على علم بأنشطة الاستخبارات الأميركية أم لا.
ويدعم الدبلوماسي الأوروبي ما ذهبت إليه الخبيرة في العلاقات الأوروبية- الأميركية "كارين دونفاير" التي اعتبرت تصريحات كوندوليزا رايس بمثابة إقرار منها بأن الحكومات الأوروبية كانت على علم مُسبق بأنشطة وكالة الاستخبارات المركزية على أراضيها، مؤكداً "أنه أثناء ظهور المزاعم حول قيام الاستخبارات الأميركية بعمليات في بعض الدول الأوروبية لم يصدر نفي قاطع من قبل المسؤولين يفند تلك الادعاءات". ومن جهتها أكدت وكالة الاستخبارا