شهدت الأيام الأخيرة بالمنطقة أحداثاً بارزةً، قد يصعُبُ لأول وهلةٍ رَبْطُها بعضها ببعض: من التوتر بين حكومة "حماس" ورئيس السلطة الفلسطينية، إلى النجاح الأولي في تشكيل السلطة الجديدة بالعراق رغم استمرار العنف، إلى تفجيرات مدينة دهب المصرية على خليج العقبة. إنّ المشترك بين هذه الأحداث وجودُ الإسلاميين فيها طرفاً فاعلاً أو بارزاً، ووجودُ إيران والولايات المتحدة بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. وإذا تأمْلنا أحداث وحوادث السنوات الأربع الماضية، نجد دائماً طرفين من الأطراف الثلاثة حاضراً في المشهد إن لم تكن الأطراف كلُّها.
لقد كان من المعقول التنبُّهُ إلى المشهد الجديد في المنطقة منذ أكثر من عقدين. بيد أنّ الذي أخَّر ذلك عدمُ تبلْورُ البدائل عن مشروع العروبة ثم عن فكرتها التي كانت فكرةَ العرب الاستراتيجية للانتماء والبناء القومي في القرن المنقضي. فقد أصرَّ البريطانيون ثم الفرنسيون منذ عقود على مصطلح الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى (إلى أوروبا)، وانضمَّ إليهم الأميركيون في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما بدأوا يرثون منهم منطقة المشرق العربي لتحقيق هدفين: السيطرة على مصادر الطاقة وحماية طُرُقَها، ومصارعة الاتحاد السوفييتي ومعسكره في منطقتنا وفي العالم. ومنذ أواسط الخمسينيات، في مواجهة حلف بغداد، بدا أنّ هناك مشروعين متصارعين في المنطقة: المشروع العربي الذي تقودُهُ مصر، ويريد استناداً للانتماء العربي (المتبلور في حدّه الأدنى بالجامعة العربية) إقامة منطقةٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ واحدة- والمشروع الغربي (الذي صار أميركياً/ بريطانياً في الستينيات) وهو يقولُ بالشرق الأوسط الذي يتضمن إسرائيل وإيران وتركيا. وبعد جولات كرٍ وفرٍ بين الخمسينيات والثمانينيات، كان الغزو الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى بيروت (1982) من أجل إخراج منظمة التحرير الفلسطينية منها، آخِرَها؛ بدا أنّ المشروعَ العربيَّ- الذي فقد مصر بعد فَقد عبد الناصر- أخذ يلفِظُ أنفاسَه. وسارع كثيرون في طليعتهم فؤاد عجمي، الأستاذ الأميركي من أصل لبناني، إلى نعْي الفكرة العربية، والمشروع العربي، والاستنتاج أنّ ذلك يعودُ إلى أنه ما كانت لذاك المشروع أُسُسٌ حقيقية؛ إذ ليست هناك قومية عربية، بل العرب- في ما يتجاوزُ اللُّغة- مجموعةٌ من المحليات والديكتاتوريات، التي ازدادت غربةً وغرابةً بتحالُف أكثرها مع الشيوعية السوفييتية!
ذهب المشروعُ العربي إذن ضحيةً للفشل في مواجهة إسرائيل، والفشل في إقامة دولةٍ قوميةٍ ناجحة. لكنّ الشرق أَوسطية الأميركية/ الإسرائيلية تلقّت ضربةً كبرى أيضاً بقيام الثورة الإسلامية في إيران. وبذلك ما عاد هناك غير تركيا وإسرائيل؛ في ظل قيام ديكتاتوريةٍ إسلاميةٍ أيضاً في باكستان في عهد الجنرال ضياء الحقّ. ولذلك فقد بقي هناك أملٌ لدى القوميين في ترميم الوضع في "العالم العربي" بإعادة الجامعة العربية إلى مصر رغم صلحها مع إسرائيل، ومحاولة العمل على تطوير "النظام العربي" بالإصلاح الاقتصادي ثم السياسي، وتقوية "العمل العربي المشترك". صحيحٌ أنّ الحديثَ ما عاد يتردد كثيراً عن العروبة، لكنه كثُر عن الديمقراطية، باعتبار أنّ العلّة في المشروع العربي الأول أنه لم يكن ديمقراطياً. واستلمت الولاياتُ المتحدةُ الطرف الآخَرَ من الخيط بالحديث الكثير أيضاً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بمنطقتنا، مع دعم الأنظمة القائمة تارةً، والضغط عليها تارةً أُخرى للتقدم نحو الديمقراطية. وقد ظلَّ الاهتمامُ منصباً على التطورات داخل الأنظمة، والصراعات من مثل الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، والصراع بين إيران والعراق، ثم بين العراق والولايات المتحدة. وما تنبَّهَ أحدٌ إلى المستجدات على مستوى القاعدة في العالم العربي. إذ كان المعتقد أنه حتى "الظاهرة الإسلامية" يمكن تجاوزها بالتطوير السياسي، والصراع الكردي/التركي يمكن تجاوُزُه بالتطوير الديمقراطي في تركيا. وأجابت الولايات المتحدة على التحدي الأصولي الإسلامي بالحرب على الإرهاب، وبغزو أفغانستان والعراق. وبعد قُرابة الخمس سنوات على أحداث سبتمبر 2001 تبلور في المنطقة مشهدٌ جديدٌ ما عاد ممكناً تجاهُلُهُ، ولا تجنُّبُ آثاره.
لقد كشف الصراع الأميركي/الإيراني عن مشهدٍ شرق أَوسطي فعلاً. يتصارعُ الأميركيون مع الإيرانيين رسمياً من أجل الملفّ النووي. بيد أنّ الرهانات تقبعُ في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي فلسطين، وفي نفط وغاز وأمن الخليج والعراق. ولا تأتي في المشهد بعد هذين الطرفين الأنظمةُ العربيةُ أو الملفات العربية؛ بل الجماهير العربية التي تنتصرُ أغلبياتُها للإسلام السياسي حتى في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان. وهكذا فهناك مشروعان اليومَ في المنطقة: مشروعٌ إسلاميٌّ تقودُهُ إيران، ومشروعٌ شرق أوسطي تقوده الولايات المتحدة تحت اسم: الشرق الأوسط الأوسع. يقول الإيرانيون- ومن ورائهم الإسلاميون السنّيون- وإنْ من دون تعاوُنٍ وثيقٍ في سائر البلدان العربية، إنهم يريدون حماية استقلال المنط